التفاسير

< >
عرض

هَـٰذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ
٤٩
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ
٥٠
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ
٥١

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله تعالى: { هَـٰذَا } أي: ما تقدم من موكب الرسل { ذِكْرٌ } تذكير كما في قوله تعالى: { { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ .. } [البقرة: 282].
يعني: هذا الذي ذكرناه من موكب الرسل ومن موقف الأمم معهم، وكيف أنهم تحمَّلوا تفاهة القوم وقِلَّة أدبهم مع أنبياءهم، وتحمَّلوا الاجتراء باللسان وبالجوارح، نذكر هذا لمحمد الذي يَلْقى من قومه ما يَلْقى من الأذى لنذكره أنه ليس بدْعاً في الرسل، وأن ما جرى لإخوانه المرسلين لا بُدَّ أنْ يجري له، وإذا كنا نقيس الابتلاء بمقدار الرسالة فنصيبُ محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الإيذاء أكبر من نصيب الرسل أجمعين.
فقوله تعالى: { هَـٰذَا ذِكْرٌ .. } [ص: 49] تسليةٌ لسيدنا رسول الله حتى يعلم أنه ليس بِدْعاً في ذلك، وأن عظمته في أنْ يتلقَّى سفاهة القوم؛ لأن القومَ حين يسفهون على الرسول يدلُّ ذلك على أنهم منتفعون بالفساد الشائع في قومهم، وما جاء الرسول إلا ليقضي على هذا الفساد، إذن: لا بُدَّ أنْ يكون الرسولُ خَصْماً لهؤلاء، وكلما تصدَّى لفسادهم اشتدتْ عداوتهم له، وإيذاؤهم وسخريتهم منه، واتهامهم له بالكذب والسحر والجنون .. إلخ.
فهذه إذن سنة لله تعالى في كل مَنْ يتصدَّى للدعوة ويجابه الفساد في المجتمع، لا بُدَّ أنْ يجد مَنْ يجترئ عليه ويتهمه بالباطل، ويحاول النيل منه والتشكيك في قصده، هذا رَدُّ فعل طبيعي إذا وجده الداعية ينبغي أنْ يُسَرَّ به، فهو إشارة وعلامة تدلّ على نجَاحه في مسعاه، وأنه نال منهم وغَاظهم.
وقوله سبحانه: { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } [ص: 49] أي: مرجع حسن إلى الله يوم القيامة، فهي تتحدث عن الآخرة وما ينتظره صلى الله عليه وسلم من الجزاء الحسن، ففي الآية عطاءان لرسول الله: الأولى: تسليته صلى الله عليه وسلم في قوله: { هَـٰذَا ذِكْرٌ .. } [ص: 49] ثم { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } [ص: 49] كأنه تعالى يقول: هذا الذي ذكرناه ذِكْر لمحمد كي نُسَلِّيه، لكن الأهمّ من ذلك ما ينتظره من الجزاء الحسن في الآخرة، الواو هنا عطفت { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } [ص: 49] على { هَـٰذَا ذِكْرٌ .. } [ص: 49].
والمتقون مادتها: وَقَى يعني حال بين شيء يصيبه، وبين نفسه، واتقى الشيء جعل بينه وبين الشيء وقايةً تحميه. وإذا نظرنا إلى هذه المادة في القرآن نجد الحق سبحانه يأمر بالتقوى تكليفاً يكلف الإنسان أنْ يقي نفسه مما يعُود عليه بالشر، وقد أتتْ هذه المادة بلفظ: اتقوا الله، واتقوا ربكم، واتقوني، واتقوا النار، واتقوا الفتنة.
وكلها تلتقي في معنى واحد، لأن لله تعالى كما قلنا صفات جلال وصفات جمال، فمعنى اتقوا الله: اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال لله وقاية، مثل: المنتقم الجبار القهار .. إلخ.
وهذه الصفات هي التي ترهب المخالف وتردعه، فاتقوا صفات الجلال من الله، لأنه سبحانه قادر أنْ يبطش بكم وليس لكم جَلَد على انتقام الله أو التعرُّض لأثر هذه الصفات.
وبنفس المعنى: اتقوا النار لأنها جُنْد من جُنْد الله، وأثر من آثار صفات الجلال.
وفي موضع واحد من القرآن وردتْ التقوى بلفظ (واتقوا) دون ذكر للمتقَى، وكأن هذا اللفظ جاء ليدلّ على شمول التقوى أو مطلق التقوى، فهي تعني: اتقوا الله، واتقوا النار، واتقوا الفتنة .. إلخ.
ومعنى { لَحُسْنَ مَآبٍ } [ص: 49] يعني: حُسْن مرجع، لكن أيّ مرجع؟ للعلماء في المرجع كلام فلسفي يقولون: أي مرجع الروح ومردّها إلى الأجساد يوم القيامة، وهذا كلام لا وزنَ له؛ لأننا نفهم المرجع والمردَّ إذا لاحظنا الخَلق الأول، والخالق سبحانه قبل أنْ يخلق الخَلْق أخذ عليهم العهد، وهم ما يزالون في مرحلة الذَّرِّ.
كما قاله سبحانه:
{ { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [الأعراف: 172-173].
إذن: إيمان الفطرة في عالم الذرِّ والشهادة لله تعالى بأنه الربُّ الخالق المُربِّي تستدعي أن يكون المرجع إليه سبحانه والمردّ إليه للحساب، هل قابلتم هذه الشهادة بالطاعة أم بالعصيان؟ فمن أدّى العهد القديم واستصحبه إلى العهد الجديد فقد فاز وله حُسْن مآب، وأما مَنْ ظلم نفسه وخالف العهد الذي أخذه على نفسه فقد خاب وخسر، وله في الآخرة مآب الشرِّ والسُّوء.
ولما كان حُسْن المآب كلمة عامة مُجْملة أراد الحق سبحانه أن يُفصِّلها وأنْ يوضحها لنا، فقال: { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ } [ص: 50] فكلمة جنات عدن بدل من حُسْن مآب، فكأن الحق سبحانه حصر حُسْن المآب في جنات عدن، والجنات جمع جنة، وهي المكان المليء بالأشجار المتشابكة التي تستر مَنْ يسير تحتها، أو لأنها تجنّ مَنْ يسير فيها وتحبسه عن الخروج فيها أو الحاجة لغيره؛ لأن فيها كلّ ما يحتاجه، وهذا هو معنى الجنة في الدنيا أيضاً، ومنه قوله تعالى:
{ { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ .. } [الكهف: 32].
ومثَلُ الجنة التي دخلها آدم - عليه السلام - ليتلقَّى فيها من الله التجربة التكليفية بافعل ولا تفعل، لكن نسمع مَنْ يقول أن آدم كان في جنة الآخرة، وأخرجه الله منها إلى الدنيا، وهذا لا يستقيم لأن أول إخبار من الله عن آدم لم يقُلْ أنِّي خلقته للجنة، إنما قال:
{ { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً .. } [البقرة: 30].
أما مسألة دخوله الجنةَ أي جنة الدنيا، فذلك لأنك حين تريد أنْ تدرِّب شخصاً على عمل ما فإنك لا بُدَّ أنْ تتكفَّل له بالإقامة والنفقة، وتوفر له مُقوِّمات حياته بالطريقة التي تتيح له التدريب والقيام بالمهمة التي كلف بها، وهكذا فعل الله تعالى لآدم، فلما نسي ما أمره الله به واتبع الشيطان تغيَّرت طبيعته، ولم يَعُدْ صالحاً للإقامة في هذه الجنة، كما قال سبحانه:
{ { فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا .. } [الأعراف: 22].
وكانت هذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها آدم بسوأته لأنه خالف أمر ربه، كذلك إذا رأيتَ عورة ظهرتْ في الأرض إلى أن تقوم الساعة فاعلم أنها نتيجة مخالفة لمنهج الله أو تعطيلٍ لحكم من أحكامه، وإلا ما الذي جعل هذه الفتحة في آدم عورة، وهي لا تختلف عن أيِّ فتحة مثلها في الجسم، ما الفرق بينها وبين فتحة الفم مثلاً؟ إذن: متى كانت عورة؟
كانت عورة حين أصبح لها مُسْتقذرات ينفر منها طبْع الإنسان، وكيف تكونتْ هذه المستقذرات؟ تكوَّنت لأنه أكل على خلاف منهج ربه، بدليل أنه لما أكل وفْق ما أمره الله لم تكُنْ له فضلات، كان يأكل من طهي الله، يأكل على قَدْر استبقاء الحياة.
لكن لما خالف وأكل من الشجرة تكوَّنتْ الفضلات وظهر أثرها المستقذر
{ { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ .. } [الأعراف: 22] يريد أنْ يستر هذه العورة وأنْ يداريها، لكنها أصبحتْ عادة لازمة للإنسان إلى الأبد، سوأة لا تُستر ولا تُدفع، إذن: صارت سوأة بالمخالفة.
لذلك نجدهم في الحروب وميادين القتال يعطون الجنود أقراصاً مغذية تفيد الجسم، ولا تترك فضلات، ولا تزحم المعدة.
ولو تنبَّه آدمُ لوسوسة الشيطان ما طاوعه وما أكل من الشجرة؛ لأنه أغواهما بقوله:
{ { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ } [الأعراف: 20] في حين أنه يطلب من الله أنْ يُنْظِره إلى يوم يُبعثون، ولو علم أن هذه الشجرة تبقيه وتُخلده لأكل هو منها، أليس هو القائل: { { رَبِّ فَأَنظِرْنِيۤ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ص: 79].
إذن: كان الشيطان كذاباً، لكن لم يتنبه آدم لكذبه، قال تعالى:
{ { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115].
لكن لماذا يقع آدم - عليه السلام - في هذا الابتلاء؟ قالوا: لأن آدم سيكون أباً للبشر جميعاً، وسيكون ممثلاً لصِنفيْن منهم، صنف معصوم من الخطأ وهم الأنبياء والرسل، وصنف يخطئ وهم عامة الناس، إذن: لا بُدَّ أنْ تتمثل في حياته هاتان الصورتان، وقد وقع منه العصيان وهو في الجنة في فترة الاختبار التكليفي كما قلنا، وعصيانه هذا لا ينافي عصمة الأنبياء، لأنه لم يكُن قد نُبِّئ بعد، لكن تاب آدم فتاب الله عليه
{ { فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ .. } [البقرة: 37].
وقال:
{ { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [طه: 122].
إذن: كان الاجتباء والاختيار للنبوة بعد المحنة التي وقع فيها، وبعد الاجتباء عصم آدم عصمة الأنبياء، وكلمة
{ { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ .. } [طه: 122] دلتْ على التعقيب ووجود مدة بين عصيان آدم واجتبائه.
إذن: قوله تعالى: { جَنَّاتِ عَدْنٍ .. } [ص: 50] أي: في دار الجزاء ومعنى { عَدْنٍ } يعني: إقامة دائمة لا تزول ولا تنتهي، وقال (عَدْن) لأن جنات الدنيا ينتفع بها صاحبها مدة ثم تزول، فإما أنْ تصيبها جائحة، كما في قوله تعالى في قصة أصحاب الجنة:
{ { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } [القلم: 17-20] وإما أن يموت هو ويتركها لغيره.
لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يُطمئن أهل طاعته بأن الجنة التي أعدَّها لهم باقية دائمة لا تزول، جنات إقامة دائمة خالدة، لا يفوتك نعيمها ولا تفوته.
وقوله سبحانه: { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ } [ص: 50] مُفتحة اسم مفعول يدل على المبالغة وكثرة تفتيح الأبواب، فمَنِ الذي يفتحها؟ يجوز فتحها الخزنة ساعة يروْنَ أهل الجنة قادمين يفتحونَ لهم ويحيونهم
{ { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 73].
كما نرى مثلاً في الفنادق الكبيرة، يقف الحراس والحُجَّاب على الباب، وساعةَ يأتي الزائر يفتحون له الباب، لكن لما ارتقوا بهذه المسألة رأينا الأبواب تُفتح وحدها أتوماتيكياً بمجرد الاقتراب منها، فإنْ دخل الزائر تُغلق أيضاً تلقائياً. فيجوز أن الأبواب تُفتح بفعل الملائكة، أو تُفتح بمجرد إرادة أهل الجنة، فساعةَ يريد أنْ يدخل تُفتح له دون تدخُّل من أحد.
فإذا كان البشر قد توصَّلوا إلى هذه الدرجة في مسألة فَتْح الأبواب، فهذا التقدُّم يؤيد ما جاء به القرآن، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:
{ { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [الزخرف: 33].
لقد رأينا هذه السُّقف وهذه المعارج، وقد يُراد بها السلالم والأسانسيرات التي نصعد فيها الآن، وقد نزل هذا الكلام منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان على أمة أمية مُتبدية، لا تعرف المباني، إنما تسكن الخيام وبيوت الشَّعر والوَبَر.
إذن: في القرآن لقطات تدلُّك على أن في كتاب الله رصيداً لكل ما يجدُّ في حياة الناس، فإنْ تعجبتَ لشيء في كتاب الله فاعلم أن الواقع يؤيده، وأنكم أيها الخَلْق ستصلون في علومكم وارتقاءاتكم إلى مِثْل ما تتعجبون منه، فإذا كنتم قدرتم أنْ تفعلوا ذلك فاسمحوا لله تعالى أنْ يفعله من باب أوْلَى.
ثم يقول سبحانه في وصف أهل الجنة { مُتَّكِئِينَ فِيهَا .. } [ص: 51] المتكئ هو ما بين النائم والجالس، أو ما بين النائم والقاعد؛ لأن هناك فَرْقاً بين قعد وجلس - وإنْ كان المعنى واحداً - لأن قعد تكون عن قيام، كان قائماً فقعد، أما جلس فمن الاضطجاع، يعني كان مضطجعاً فجلس.
والإنسان حين يكون قائماً يحمل وزنه كله على القدمين، فإنْ تعب من القيام قعد، وفي القعود يكون ثقل الجسم على المقعدة، فإنْ تعب من القعود اتكأ على جنبه .. وهذا وَضْع بين الجلوس والاضطجاع على الأرض، ويُوزع فيه ثقل الجسم فيكون أكثر راحة للإنسان.
لذلك اختاره الله لأهل الجنة، واختارته امرأة العزيز للنسوة اللاتي استضافتهن. قال تعالى:
{ { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً .. } [يوسف: 31] فالمتكأ دَلَّ على أن المجلس لا يُمَلُّ، وأن الاتكاء هو الوضع الذي يأخذ فيه الإنسان راحته.
وقال تعالى في أهل الجنة:
{ { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } [الرحمن: 54].
وقال أيضاً في سورة الرحمن:
{ { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } [الرحمن: 76].
وقال أيضاً في بيان مُتكأ أهل الجنة:
{ { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ .. } [الكهف: 31].
إذن: أهل الجنة يتكئون إما على الفرش المُبطَّنة بالإستبرق، وهو الحرير السميك الغليظ، وهو يشبه ما نسميه الآن (الستان)، وإذا كانت هذه الفرش حشوها وبطانتها من إستبرق، فما بالك بظاهرها؟
ومعنى (رَفْرَفٍ) هو ما نسميه الآن الكرانيش الموجود مثلاً في الستائر. ومعنى (الأرائك) مفردها أريكة، وهي السرير الذي تُوضع عليه الحليات والستائر أشبه (بالنموسية) مثلاً. هذه هي مُتكاءات أهل الجنة.
لكن ماذا بعد أنْ يتكئ؟ لا بُدَّ لتمام النعيم من الطعام والشراب فهو لا يتكئ ويصوم، إنما { يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } [ص: 51] فكأن التحية التي تُقدَّم لهم هي ما تشتهيه نفوسهم. يعني: لا يقدم لهم شيئاً على غير مرادهم، إنما حسب ما يرغبون وما يشتهون، فالتحية ليستْ مُلزِمة للجميع؛ لأنها قد لا تصادف هَوىً في النفس، وقدَّم الفاكهة مع أنها تفكُّهٌ ورفاهية بعد القوت الطبيعي والضروري، قالوا: وجود الفاكهة أو التفكُّه دليل على وجود الضروريات من باب أَوْلَى.
وقوله { وَشَرَابٍ } [ص: 51] المراد الشراب المستخرج من العنب، وخَصَّ الفاكهة والشراب لأنها لم تكُنْ موجودة في البيئة التي نزل فيها القرآن، فكان لها لذة عندهم، فهم لا يعرفون في طعامهم إلا التمر والبُرّ والشعير، فذكر لهم ما يشتهونه من الطعام والشراب.
وفي موضع آخر قال سبحانه:
{ { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } [الواقعة: 20-21].
وفي سورة البقرة يُبيِّن لهم أن فاكهة الآخرة تختلف عما يعرفونه من فاكهة الدنيا وإنْ تشابه الاثنان، فالشكل واللون واحد، لكن المذاق مختلف، قال تعالى:
{ { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ } [البقرة: 25].
إذن: الثمرة هي الثمرة، تفاح مثل التفاح، حتى أنك تقول: هذا الذي أكلتُه في الدنيا، والحقيقة أنه مختلف تماماً لأنه مُعَدٌّ لك بطلاقة القدرة.
وفي مواضع أخرى يوضح لنا القرآن الكريم مجلسَ أهل الجنة فيحدثنا مرة عن الفُرُش والمتكأ، فيقول:
{ { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [الغاشية: 13-16].
النمارق جمع نمرقة، وهي التكاية التي نتكئ عليها. والزرابي: جمع زريبة، وهي البساط المنقوش. وإذا حدَّثنا عن أدوات الشراب يقول مرة (أكواب) ومرة (أباريق) ومرة (كأس).
هذه كلها أوعية للشراب، لكن هناك فرقاً بين هذه الثلاثة: فالكوب هو الإناء الذي ليس له عُرْوة ولا خرطوم، عروة يعني يد يُمسَك منها: والخرطوم هو الذي نسميه (البزبوز) الذي يُصَبُّ منه الماء، فإنْ كان له عروة أو خرطوم سُمِّي إبريقاً، فإنْ كان في الكوب شرابٌ سُمِّي كأساً، يعني: الكأس هو الكوب إنْ كان ممتلئاً، وإن كان فارغاً فهو كوب.
ومن عادات العرب في الكاسات أن الواحد منهم لا يشرب كلَّ ما فيها، إنما يُبقي فيها كمية من الشراب، ثم يريقها على الأرض، وفي هذا دلالة على عدم الشَّرَه وعدم الطمع، أو دلالة على امتلاء العين والاستغناء.
وقد عَبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:

ولِلأرْضِ مِنْ كَأْسِ الكِرَامِ نَصِيبُ

وكنا قبل أن نذهب إلى طعام أحد الإخوان حين نُدْعَى إليه نأكل أكلة خفيفة، أو طبقاً نسميه طبقَ الكرامة، حتى لا نجلس على الطعام ونحن متلهفون للطعام، فلا يليق بالكريم أنْ يُقبِلَ على الطعام بشَرَهٍ، كأنه لم يَرَ طعاماً من قبل.
ومن عادات العرب أيضاً في شرابهم أنهم لا يملئون الكأس إلى آخرها، حتى يستطيع الشارب أنْ يُميز الشراب من الكأس التي وُضِعت فيه، وهذا يدل على صفاء الشراب أو صفاء الكأس.
لذلك قال شاعرهم:

لَوْلاَ انْتِصَافُ الكأْسِ خِلْنَا أنَّهَا فِي كَفِّ سَاقِيهَا تقوم بِذَاتِها

يعني: لو مُلِئت الكأس لَخِلْتَ أنها كأس بلا شراب، أو شرابٌ بلا كأس.
لكن ماذا يطلب أهل الجنة بعد الاتكاء وبعد الأكل والشرب مما تشتهيه أنفسهم، قالوا: الإنسان بعد أن تتوافر له هذه النعم يتطلع إلى حسناء يداعبها تكون له وحده لا يشاركه فيها غيره، لذلك قال تعالى بعدها:
{ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ ... }.