التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ
٨٦
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
٨٧
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ
٨٨

خواطر محمد متولي الشعراوي

(قُلْ) أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ .. } [ص: 86] ولو قال: ما أسألكم عليه أجراً لاستقام المعنى أيضاً، لكن قوله: { مِنْ أَجْرٍ .. } [ص: 86] من هنا دلَّتْ على أقل ما يُقَال له أجر ولو كان جنيهاً واحداً، أو قرشاً واحداً، فمن هنا نفت مطلق الأجر، أما كلمة أجر فهي تعني أجراً مُجْزياً يُعْتَدُّ به ولا تمنع وجود الأجر القليل، كما تقول: ما عندي مال، وما عندي من مال أي: من بداية ما يُقال له مال. ولو كان قرشاً واحداً.
وكَوْنُ الحق سبحانه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ لهم يا محمد ما أسألكم عليه من أجر، كأنه يقول لهم: يا قوم إنَّ ما جاءكم به محمد عمل نافع لكم في دينكم وفي دنياكم، وكان الواجب عليكم أنْ تُعطوه أجراً عليه، إذن: هو يستحق الأجر لكن لن يسألكم إياه لأن ما يقدمه لكم لا يستطيع بشر أنْ يُؤدّي حقه أو يدفع ثمنه، فأجره لا يأخذه إلا من الله، فهو وحده القادر على أنْ يجازيه، وأنْ يُعوِّضه عما قدَّم.
إذن: محمد صلى الله عليه وسلم يستحق على هداية القوم وتبليغهم منهج ربهم أجراً، وهو غير زاهد في هذا الأجر، إنما يريد أنْ يُقوِّم هذا العمل بتقويم الذي أرسله بهذه الرسالة.
وهذه العبارة { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ .. } [ص: 86] سنة لازمة لجميع الأنبياء، فكلهم قالوها لأقوامهم عدا سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى عليهما السلام، لماذا؟
قالوا: لأن سيدنا إبراهيم أول ما دعا إلى الإيمان بالله ووحدانيته دعا أباه آزر، ولا ينبغي له أن يطلب أجراً من أبيه، كذلك سيدنا موسى أول ما دعا إلى الإيمان دعا فرعون الذي ربَّاه وأحسن إليه، فكيف يقول له: أعطني أجري.
وقوله سبحانه: { وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ } [ص: 86] المتكلِّف: هو المتصنِّع الذي يُظهر شيئاً فوق قَدْره المنوط به، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تتكلفوا للضيف فتبغضوه" يعني: لا تُحمِّلوا أنفسكم فوق طاقتها، كالذي يقترض ليقوم بواجب الضيافة، ثم يذهب الضيف ويبقى عليه الدين وهذا يجعله يكره الضيف بعد ذلك ويتأذى أنْ ينزل به.
إذن: كُنْ على طبيعتك، وقُمْ بواجب الضيافة على قَدْر طاقتك. ولِمَ لا وقدوتك صلى الله عليه وسلم يقول: { وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ } [ص: 86] لأن الأمر الذي جئتُ به لا يحتاج إلى تكلُّف إقناع لأنه أمر موافق للطبيعة.
ولك أنْ تستعرضَ أحكام الشرع، وأنْ تنظرَ فيها، أهي صالحة في ذاتها أم لا؟ الدين يقول لك: لا تكذب. فمَنْ يقول إن الخير في الكذب؟ الدين يقول لك لا تغش فمن يقول: إن الصلاح في الغش؟ الدين نهاك عن شرب الخمر فمَنْ يقول إنها تصلح؟ ومَنْ ينكر أنها تفسد العقلَ الذي ما كُرِّم الإنسان إلا به؟
إذن: كلها أحكام واضحة لا تحتاج إلى تكلُّف في الإقناع بها، لأنها توافق الفطرة السليمة.
ثم يقول سبحانه: { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ص: 87] أي: ما هو أي القرآن { إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ص: 87] والذكر والتذكير لا ينشأ إلا من نسيان شيء سابق ونريد أنْ نُذكِّرك به، فالقرآن ذكْر بمعنى أنْ يُذكِّرك بما نسيته من العهد الأول عهد الفطرة الذي أخذه الله عليك وأنت في طوْر الذَّرِّ، فقال:
{ { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ .. } [الأعراف: 172] فأقر الجميع { قَالُواْ بَلَىٰ .. } [الأعراف: 172].
فقال الله تعالى: إذن احفظوا هذا العهد وتذكروا هذا الإقرار
{ { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ .. } [الأعراف: 172-173].
إذن: الحق سبحانه لا يكلِّفك بهذا الإقرار إنما يُذكِّرك به، لأن التكليف أُخِذَ عليك يوم أنْ كنتَ ذرةً في ظهر أبيك آدم، ولم تكُنْ لك شهوة.
فقوله تعالى عن القرآن: { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ص: 87] دلَّ على أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من قمة توحيد الله والإيمان به إلى فرعيات التكليف وجزئياته أمر كان في القديم، عرفه الجميع وأقرُّوا به، والقرآن فقط مُذكِّر بهذا العهد الأول.
ثم تختم السورة بقوله تعالى: { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ص: 88] أي: الذين كذَّبوا القرآن سيعلمون عاقبة هذا التكذيب, وسيعلمون أنه خبر صادق، سيعلمون ذلك { بَعْدَ حِينِ } [ص: 88] قالوا: الحين يُرَاد به ظهور الإسلام وانتصاره على الكفر، بداية من معركة بدر إلى أنْ قال القائل: عجبتُ لهذا الأُمِيِّ، كيف يفتح نصف الدنيا في نصف قرن، نعم هذه عجيبة ولا تزال حتى الآن.
وقد شاهد هؤلاء المكذِّبون بأعينهم انتصارَ الإسلام واندحار الكفر، وشاهدوا نقصان رقعة أرض الكفر، وازدياد رقعة أرض الإيمان، كما قال سبحانه:
{ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا .. } [الرعد: 41] ومع ذلك لم يأخذوا من فتوحات الإسلام عبرة.
وقالوا: الحين يراد به القيامة حين يدخل هؤلاء المكذبون النارَ، عندها سيعلمون صِدْق هذا الكلام الذي أخبرهم الله به في قرآنه.
وكلمة النبأ لا تقال إلا للخبر العظيم الهام، كما قال سبحانه:
{ { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } [ص: 67-68].
فما بالك بنبأٍ الذي وصفه بأنه عظيم هو الله؟ وعظمة الخبر تأتي بمقدار ما يُهيىء من الخير للإنسان، فالخبر بأنك نجحت في القبول، غير الخبر بنجاحك في التوجيهية، غير الخبر بأنك أصبحت وزيراً، فعِظَم الخبر بمقدار ما يحمل لك من الخير المرجو منه للإنسان.
إذن: ما بالك بالخير الذي ينتظرك بعد قيامك بالتكاليف الربانية، إنه خير لا يسعدك في دنياك المنقضية فحسب، إنما يسعدك في آخرتك الباقية الخالدة، فعِظَم هذا الخبر أنه ضَمِن لك الحياتين الدنيا والآخرة.
وأسأل الله في آخر السورة أنْ يجعل لنا حظاً من قوله: { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ص: 88].