الحق سبحانه وتعالى حينما يُخبر عن خيره سواء أكان هذا الخير يتعلق بمقوِّمات الحياة في الدنيا أو بمُعدَّات النعيم في الآخرة، يتكلم عنه على أنه إنزال، وكلمة أنزل تدل على جهة العلو، وأن هذا العطاء من أعلى، وإنْ خرج من باطن الأرض كما في قوله سبحانه: { { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25].
فالنعمة من الأعلى وليست من مُسَاوٍ، وأنت في تصريف حياتك عندما تكون لديك مسألة لا تَقْوى إمكانياتك عليها، ولا يَقْوى عقلك على التفكير فيها تذهب لمَنْ هو أعلى منك في هذا المجال ولمَنْ تثق فيه وفي فكره، ليساعدك على حَلِّها، تفعل ذلك وأنت راضٍ، لأنك أسلمتَ الأمر لمن تثق في قدراته.
فالحق سبحانه حينما يقول: أنزلنا. يعني: خدوا أحكامي على أنها من أعلى، وعلى أنها الأفضل لكم، لأنها من خالقكم الذي يعلم ما يصلحكم.
يقول تعالى هنا: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ .. } [الزمر: 21] معنى (من السماء) أي: من جهة السماء، وإلا فمخازن الماء في الأرض، في البحار، وهي مُعدَّة إعداداً كيمياوياً بحيث تحفظ الماء فلا يتغير ولا يأسن، ولا تعيش به الطفيليات.
لذلك نجد الماء المالح في البحار تصونه نسبةُ الملوحة في الماء، ويُلقي فيه بالقاذورات والجيف، فينفيها الموج ويبقى الماء على صلاحه، ومن ماء البحار تتم عملية البخر التي تكوِّن السحاب والمطر الذي يسقي الإنسان والحيوان والنبات.
وماء المطر هو أنقى ما يمكن الحصول عليه من الماء، فعملية البخر مثل عملية تقطير الماء التي نجريها في المعامل للحصول على الماء النقي، وتأمل كم تكلفة تقطير زجاجة ماء واحدة، فما بالك بماء المطر الذي ينهمر من السماء؟
لذلك، من حكمة الخالق سبحانه أنْ جعل الماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وجعل اليابسة الربع، ذلك لتتسع مساحة البخر ويكفي المطر حاجة الأرض من الماء العذب، وسبق أن بينّا الفرق بيم الماء الذي له عمق، والماء الذي له سطح مُتسع، فالبخر يعتمد على اتساع سطح الماء، فكلما اتسع السطح زاد البخر، ومثّلنا لذلك بكوب الماء تتركه شهراً وتعود فتجده كما هو لم ينقص منه إلا القليل، لكن إنْ سكبْتَه في أرض الغرفة، فإنه يجفّ قبل أن تغادرها.
والحق سبحانه يريد للماء المالح أنْ يتبخر ليتخلّص من ملوحته، ثم ينزل ماءً عَذْباً سائغاً للشاربين، وعملية البخر هذه تتم ولا ندري عنها شيئاً، إنها آية من آيات الله ونعمة من أعظم نعمه علينا.
والماء حين ينزل من السماء لا ينزل على كل مكان، إنما ينزل على الأماكن الباردة، فبخار الماء المتجمِّع في السحاب حينما يمر بمنطقة باردة يتكثف من جديد كما نكثّف الماء المقطر، فالماء الذي يأتينا في نهر النيل أين يسقط؟ يسقط على هضبة الحبشة وتحمله إلينا الأنهار، ويتسرب منه جزء في باطن الأرض، ويجعل الله له في الأرض مسالك.
هذا معنى { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ } [الزمر: 21] يعني: جعل له مَجاريّ خاصة ومسالك، بحيث لا يختلط بالماء المالح، وقد تُوجد مثلاً عَيْنٌ للماء العذب تنبع وسط الماء المالح، ومع ذلك لا تختلط به، وكأن الماء العَذْب يسير في أنابيب مخصوصة أشبه ما تكون بالشرايين في جسم الإنسان.
وقوله تعالى هنا { أَلَمْ تَرَ .. } [الزمر: 21] ما دام شيء يمتنُّ الله فيه بالرؤية، فإن كنتَ تراه فاعلم أنه كلام حقيقي، وأنا أرى المطر ينزل من السماء، وإنْ كنت لا تراه فصدِّق ما أخبرك الله به كما تصدق عينك في الرؤية، لأن إخبار الله لك أصدَقُ من رؤية عينيك.
ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: { { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [الفيل: 1] ومعلوم أن سيدنا رسول الله وُلد في عام الفيل يعني: لم يرَ هذه الحادثة، فالمعنى ألم تَرَ يعني: ألم تعلم عَلْماً مني، يفوق علم رؤياك بالعين.
ثم يقول سبحانه: { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } [الزمر: 21] فالزرع يُزرع في تربة واحدة، ويُسقى بماء واحد، ومع ذلك تأتي الثمار مختلفة في الألوان وفي الطَّعْم وفي عناصر التكوين.
لما تكلَّم العلماء في هذه المسألة قالوا: في النبات خاصية تُسمَّى خاصية الانتخاب يعني: أن النبات يمتصّ بواسطة الجذور العناصر اللازمة له من الأرض، لكن لو جئنا مثلاً بإناء فيه ماء، ووضعنا فيه عدة ألوان، ثم وضعنا فيه الأنابيب الشّعرية الضيقة التي يصعد فيها الماء إلى أعلى بهذه الخاصية، نجد هذه الأنابيب تمتص من الماء على عمومه لا تفرق بين لون ولون.
وليس كذلك امتصاص النبات للعناصر اللازمة له من التربة، النبات لا يمتص إلا المواد اللازمة والمناسبة لطبيعته، فالخاصية الشعرية في الجذور تمتصّ على هدى، فتأخذ من التربة وتدَع، فالتربة واحدة، والماء واحد، ومع ذلك تختلف الطعوم والأشكال والألوان والرائحة.
إذن: ليس هو الانتخاب الذي يعنيه العلماء، إنما هو انتخاب إلهي يقوم على الطبيعة التي أودعها الله في الحبة والبذرة الأولى للنبات، فأنت تزرع مثلاً الفلفل الحاء بجوار قصب السكر بجوار الرمان، فتجد هذا حاراً، وهذا حلواً، وهذا مُزاً.
ثم ينتقل النبات إلى مرحلة أخرى، يصفها الحق سبحانه بقوله: { ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } [الزمر: 21] معنى يهيج يعني: يجف ويتحطم، ويصير فتاتاً. يعني: لا يستمر على خضرته ونضارته، وكأن الحق سبحانه جعل النبات عبرةً للإنسان، فالنبات كائنٌ حَيّ كالإنسان، وسيمر الإنسان بهذه المرحلة فيجفّ ويتفتت كالنبات.
فالله سبحانه يضرب لنا مثلاً، حتى لا نغترّ بذواتنا حين نجد لها قوة أو نجد لها عقلاً وتفكيراً أو سُلْطة وجاهاً أو مالاً، يقول لك ربك: انظر إلى أمك الأرض، وإلى الزرع يخرج منها، إلامَ يصير؟ فأنت كذلك، فلا تغترّ ما دُمْتَ من أهل الأغيار.
لذلك يقولون: لا تغضب ولا تحزن إنْ تغيرتْ بك الأمور، لأنك من أهل الأغيار، وما دُمْتَ من أهل الأغيار ووصلتَ إلى قمة الجبل، فماذا تنتظر؟ تنتظر أنْ تستقرّ عليه؟ كيف وأنت من أهل الأغيار؟ إذن: لا بدَّ أنْ تنزل؛ لذلك إن تمتْ النعمة ترقَّبْ زوالها، كما قال الشاعر:
إذَا تَمَّ شيء بدا نقْصُهُ ترقَّبْ زَوَالاً إذَا قِيلَ تَمّ
فإنْ رأيت نفسك (مزهزهة) بالعلم أو بالقوة أو بأيِّ مظهر من مظاهر النعيم، فاعلم أنك غداً ستصير إلى كبر وإلى ضعف، ستصير مثل الطفل يحبو وتحتاج إلى مَنْ يسندك ويعاونك، كما قال سبحانه: { { وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } [الحج: 5] فافهم هذا المعنى جيداً في أمك الأرض وفي ذاتك.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ .. } [الزمر: 21] أي: ما تشهده أنت من هذا الذي ذكرنا { لَذِكْرَىٰ .. } [الزمر: 21] يعني: تذكرةً وعبرةً { لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [الزمر: 21] لأصحاب العقول الواعية والمتدبرة.