التفاسير

< >
عرض

أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٢
-الزمر

خواطر محمد متولي الشعراوي

التقدير هنا { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ .. } [الزمر: 22] كمن ضاق صدره عن الإسلام، إذن: لا بُدَّ أنْ نذكر هذا المقابل لأنهما لا يستويان { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ .. } [الزمر: 22] تدل على أننا أخذنا الضيق من القسوة، فالذي ضاق صدره عن الإسلام ضاق صدره لقسوة قلبه.
وهذه مثل قوله تعالى:
{ { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] والمعنى: أهذا كمَنْ لم يقنت؟ وعليك أنت أنْ تجيب: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، كمَنْ قسا قلبُه وضاق صدره عن دين الله وهداية الله؟
ومعنى { شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ .. } [الزمر: 22] أي: جعل الضيق واسعاً، وتقول لصاحبك: وسّع صدرك يعني: اجعله مُتسعاً لمناقشة كل القضايا، ومن معاني سعة الصدر ألاَّ تشغله بالخزعبلات، وألاَّ تزحمه بالباطل، حتى يكون لك أُنْس به، وعندها يطرد الباطل الحق كما قلنا في مسألة الحيز.
فالحيز الواحد لا يتسع إلى لشيء واحد، فالماء مثلاً يطرد الهواء حين تملأ زجاجة بالماء.
ومن شَرْح الصدر أن يكون لديك عدالة اختيار حين تختار بين البدائل، عليك أن تصفي قلبك، وأن تُخرج منه كل ما يشغله، ثم تبحث القضايا المعروضة عليك، فما وجدته مناسباً تُدخِله قلبك ليستقر فيه حتى يصير عقيدةً راسخة لا تقبل المناقشة مرة أخرى، لأن الله تعالى خلق لنا حواسَّ تدرك: عينٌ ترى، وأذنٌ تسمع، ولسان ينطق.
وبهذا الحواس نأخذ المعلومات. ثم نعرضها على العقل ليختار منها ويبحث فيها، فما وجده صالحاً أسقطه في القلب، وهذه هي العقيدة التي تستقر في القلب، ولا تطفو لتُبحث من جديد.
لذلك احذر الران الذي يترسب على القلب حتى يغلقه، فلا يكون فيه مكان للحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذه المسألة في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً - وفي رواية: عَوْذاً عَوْذاً - فأيما قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تكون على قلبين: على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرباداً - وهذا الذي يقول الله فيه: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14] - كالكوز مُجخياً - منكوساً - لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً" .
والفتن هنا هي الشُّبَه التي تعرض للناس في الدين، والرسول صلى الله عليه وسلم يشبهها بالحصير الذي يُنسج عوداً بجوار عود، حتى يكون كالحصيرة التي نجلس عليها، أو عَوْذاً يعني: نستعيذ بالله من هذه الفتن، أو عوْداً أي مرة بعد مرة.
إذن: إنْ أردتَ بحث قضية الإيمان فاشرح صدرك أولاً، ووسِّعه بأنْ تُخرج ما فيه من اعتقادات، لذلك يقول سبحانه: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ .. } [الزمر: 22] والنور له مصادر، إما نور مادي كالشمس والقمر والنجوم، وهذه الأنوار التي اكتشفها الإنسان حديثاً، أو نور معنوي وهو المقصود هنا، نور القيم والمنهج { فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ .. } أي: نور الهداية الذي عناه القرآن الكريم في قوله:
{ { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ .. } [النور: 36-37].
ففي هذه البيوت التي يُذكر فيها الله، ويُسبِّح فيها الله، مكان تلقِّي فيض النور من الله، وتنزل الخيرات والرحمات؛ لأن الآيات كانت تتكلم قبل ذلك عن نور الله، ومثَل تنويره سبحانه للسماوات والأرض:
{ { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ .. } [النور: 35].
الحق سبحانه لا يضرب لنا مثلاً لنوره، إنما مثلاً لتنويره
{ { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [النور: 35] أي: مُنوِّرهما بخلقه، والمشكاة هي الطاقة غير النافذة في الحائط، والطاقة تكون محدودة المساحة غير واسعة، ثم هي غير نافذة، لذلك تجمع الضوء ولا تبدده، بحيث لا يبقى في المشكاة مكان مظلم.
ثم إن المصباح ليس عادياً، إنما في زجاجة، لأن من المصابيح ما ليس له زجاجة والذي نسميه نحن (الساروخ) وهو يخرج لهباً أسود، لأن الهواء يداعبه من كل ناحية، أمّا الزجاجة فهي تنقي اللهب وتصفيه، حيث تمنع عنه الهواء إلا بمقدار الاحتراق، فيأتي اللهب صافياً لا دخان له، هذه هي التنقية الأولى.
ثم إن الزجاجة هي أيضاً غير عادية، إنما صافية في ذاتها، كأنها
{ { كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ .. } [النور: 35] تعكس الضوء في كل ناحية.
ثم إن هذا المصباح لا يُوقَد بزيت عادي، إنما
{ { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ .. } [النور: 35] فهو زيت له مواصفات خاصة على أعدل المزاج.
هكذا ومثل هذا يُنوّر الله السماوات والأرض، فالمثال لتنوير الله لا لنور الله. وهذا هو النور الحسِّي، وحين تكمل القراءة تجد النور المعني في:
{ { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ .. } [النور: 36] وهذا هو النور في قوله: { فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ .. } [الزمر: 22].
فالحق سبحانه أعطاكم النور الحسيِّ الذي يعينكم على حركة الحياة، ليرى الإنسانُ مواضع قدمه فلا يحطم الأشياء ولا تحطمه إذا ما اصطدم بها، والنور المعنوي للقيم وللروح.
والحق سبحانه حين يُعطينا هذا المثل، ويُرينا أن المصباح لا يدع في المشكاة ظلمة أبداً، يعطينا بذلك إِشارة إلى أن نوره المعنوي كذلك لا يترك عيباً إلا أصلحه، وأتاك نور يهديك وينجيك.
وقوله سبحانه: { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [الزمر: 22] ويل لهم لأن قسوة قلوبهم حالتْ بينهم وبين الإيمان، فويل لهم ساعةَ يعرفون أن لهم ربّاً كفروا به، وتفاجئهم هذه الحقيقة التي طالما أنكروها.
وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه القضية في قوله سبحانه:
{ { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ .. } [إبراهيم: 18].
والمعنى: أنهم حبطت أعمالهم وخاب سعيهم.
وقال أيضاً:
{ { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39].
فويل لهم ساعة يعرفون أنهم كفروا بالله وضاق صدرهم عن أن يتسع لنور الإيمان، فالويْل لهم حاضر قبل أنْ يأتيهم العقاب.
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [الزمر: 22] أي: بيِّن واضح، والضلال هو عدم الاهتداء في المهيع الذي يسير فيه، كالسائر مثلاً في صحراء وضلَّ فيها الطريق، إن ضلاله يبدأ بانحرافه عن الطريق الصحيح ولو بسنتيمترات، لأنها لا بدّ أنْ تنتهي به إلى مساحات شاسعة في الضلال، أرأيتم (السيمافور) في السكة الحديد، وكيف يُحول القطار مثلاً لبورسعيد أو الإسماعيلية أو طنطا إنه مجرد تحويل سنِّ القضيب عدة ملليمترات ينتج عنها أنْ يتحوَّل القطار في سيره من مكان إلى مكان آخر بعيد، فالمعنى: { أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [الزمر: 22] أي: لا يهتدون إلى شيء أبداً.