التفاسير

< >
عرض

لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٤
-الزمر

خواطر محمد متولي الشعراوي

تحدثنا هذه الآية عن نوع آخر من الشرك، فهؤلاء لم يعبدوا الأصنام ولا الشمس ولا القمر، إنما اتخذوا أشياء أخرى يروْنَ بينها وبين الله تعالى صلة، كما نقول (من ريحته)، ورأوا أن ذلك أخفّ وأهون من عبادة الأصنام، هؤلاء كالذين قالوا عزير ابن الله، والذين قالوا المسيح ابن الله، أو الملائكة بنات الله .. الخ فردّ الله عليهم:
{ لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [الزمر: 4] يعني: هذه مسألة لا دَخْلَ لكم فيها ولا اختيار، لا تختاروا أنتم لله ولداً؛ لأن الله تعالى لو أراد ذلك - على فرض - لاختار من خَلْقه ما يشاء هو، لا ما تختارون أنتم.
لذلك خاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:
{ { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ } [الزخرف: 81] أي: من اختياره ويخبر هو به { { فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } [الزخرف: 81] يعني: أول المصدِّقين المؤمنين به، فهو على العين والرأس، إنما هذا أمر لم يخبر الله به، وإنما نفاه عن نفسه سبحانه.
وقد ورد في الحديث:
"الخَلْق كلهم عيال الله، فأحبُّهم إليه أرأفهم بعياله" إذن: فالبنوة ليست لله تعالى، وحتى في بنوة الرسل لم يجعلها الله بنوةَ دم، ولا بنوةَ أبدان، إنما بنوة أديان، وأوضح مثال على ذلك سيدنا نوح - عليه السلام - وولده.
لما أبَى الولد وعصى أمر أبيه أيقَن الوالد أنه من الهالكين، فدعا الله:
{ { فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } [هود: 45] لكن عدل الله له معنى البنوة، فقال سبحانه: { { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود: 46] فسيدنا نوح ظن أن البنوة بنوة نسب، لكن بنوة الأنبياء بنوة اتباع.
والحرف (لو) في { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [الزمر: 4] حرف امتناع لامتناع، وهو من أدوات الشرط يفيد امتناعَ وقوع الجواب لامتناع وقوع الشرط، فالحق سبحانه لم يتخذ ولداً لأنه لم يُردْ ذلك، ولو أراده لكانَ ما يريد.
وفي موضع آخر، يناقش الحق سبحانه أصحاب هذا الافتراء، يقول لهم بالمنطق
{ { أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَٰحِبَةٌ } [الأنعام: 101].
ثم لماذا يُتخذ الولد؟ يتخذ الولد ليكون عزوةً لأبيه أو امتداداً له بعد موته، والحق - تبارك وتعالى - هو الغني العزيز عن خَلْقه، وهو الدائم الباقي فلماذا يُتخذ الولد؟ والذين نَسبوا لله تعالى الولدَ في العصور المتأخرة من الديانات، كالذين قالوا: المسيح ابن الله، فهل كان الله تعالى منذ خلق هذا الكون بلا ولد إلى أنْ جاء عيسى فاتخذه الله ولداً.
وبعد أنْ أخذ عيسى من الوجود أظلَّ الله تعالى هكذا (غلبان مقطوع من شجرة) بلا ولد؟ كيف يستقيم لكم هذا الادعاء؟ إنها مسألة لا تصح أبداً في حق الله تعالى، فالله لا يحتاج إلى عزوة، ولا يحتاج لمعونة الولد، لأن الله تعالى خلق الخَلْق كله من ألفه إلى يائه، خلقه بكامل قدرته، وبصفات الكمال فيه، فلم يزده الخَلْق شيئاً ولا صفة لم تكُنْ له من قبل.
لذلك يقول بعض أهل الشطح في هذه الآية: { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [الزمر: 4] يقول: لو كان للرحمن ولد كنتُ أنا أَوْلَى أنْ أكونَ ولده؛ لأنني أول العابدين.
ثم يُذيِّل الحق سبحانه هذه الآية بما يُنزِّه الله عن هذا الافتراء: { سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ } [الزمر: 4] يعني: سبِّحه ونزِّهه عن هذه المسألة، فإنها لا تليق به سبحانه، ونزهه أنْ يشابه شيئاً من خلقه، حتى لو وقفت أمام مسألة لا يدركها عقلك قُلْ سبحان الله كما قال الله:
{ { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا } [يس: 36].
وقال:
{ { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [الروم: 17].
وقال:
{ { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء: 1].
فالحق سبحانه في مثل هذه المواقف يُعلِّمنا أنْ نُنزِّه الله، لأن العقل سيقف أمام هذه الأحداث حائراً، لكن الحدث هنا منسوب إلى الله فلا عجبَ إذن، لأن زمنَ الحدث يتناسب مع القوة الفاعلة تناسباً عكسياً، فكلما زادتْ القوة قَلَّ الزمن، فإذا نسبتَ الفعل إلى قوة القوى تجد لا زمن.
إذن: نزّهوا الله عن اتخاذ الولد لأنه { هُوَ ٱللَّهُ } [الزمر: 4] الذي له كُلُّ صفات الكمال { الوَاحدُ } الذي ليس معه غيره { القَهَّارُ } أي: الذي لا يحتاج إلى عزْوة، ولا يحتاج إلى مُعين.