التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٥٣
-الزمر

خواطر محمد متولي الشعراوي

الإسراف هو تجاوز الحدّ، نقول: فلان مسرف يعني: يتجاوز الحدَّ في الإنفاق بما لا يتناسب مع دخله، وهؤلاء أسرفوا على أنفسهم ولم يقل: أسرفوا لأنفسهم. إنما أسرفوا عليها. مما يدلّ على أن هذا الإسراف يجر عليهم الوبال، فهو إسراف في المعاصي والذنوب والعياذ بالله.
قلنا: الإسراف تجاوز الحدّ، الحد إنْ كان بعد أمر فلا تتجاوزه، وإنْ كان بعد نهي فقال لا تقربه مجرد القرب منه؛ لذلك يقول تعالى في الأوامر:
{ { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [البقرة: 229] يعني: قفْ عندها. أما في النواهي فيقول سبحانه: { { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [البقرة: 187] لأن قربك من الشيء يغريك به. وكما ورد في الحديث الشريف: "مَنْ حام حول الحِمَى يوشك أنْ يُواقعه" .
لذلك حينما نهى الحق سبحانه سيدنا آدم عن الأكل من الشجرة لم يقل له: لا تأكل منها، إنما قال سبحانه: { { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [الأعراف: 19].
لذلك تجد أن لفظ الاجتناب أقوى من لفظ التحريم وأشدّ، وعجيبٌ أنْ نسمع من الذين يسرفون على أنفسهم يقولون: لم يردْ لفظ يحرم الخمر في كتاب الله، نقول: كيف وقد ورد ما هو أشدّ من التحريم وهو الاجتناب في قوله سبحانه:
{ { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91].
لأن معنى (فَاجْتَنِبُوهُ) يعني: ابتعدوا عنها بالكلية فجانبوا مجلسها، وجانبوا شاربها، وجانبوا بائعها، وجانبوا ناقلها .. إلخ فهذا أبلغ في التحريم من قولنا لا تشرب الخمر، بدليل أن القرآن استخدم لفظ الاجتناب في قمة الإيمان العقدي، فقال سبحانه:
{ { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } [الحج: 30].
فإذا تناولنا الإسراف في الإنفاق نجد أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن تسير حركة الحياة في المجتمع الإيماني حركة متوازنة متساوية تتوسط في الأمور، بمعنى أنك تعرف دخلك ورزقك الذي يسوقه الله إليك، والله لا يريد منك أن تقبض هذا الرزق وتمسكه فلا تنفق منه، ولا يريد منك أن تنفقه كله أو تسرف فيه بل يريد الوسطية، كما بيَّن سبحانه:
{ { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67] فالإسراف والتقتير كلاهما مذموم منهيٌّ عنه، فمَن اتخذ سبيلاً غير سبيل الوسط أضرَّ بنفسه وبالمجتمع، لأنه إنْ أمسك المال قلَّتْ قوة الشراء وقوة البيع في الأسواق، ويترتب على ذلك ركود في الحركة التجارية والصناعية وبوار للسلع وكساد في السوق.
وإنْ أسرف وبذَّر فأنفق كل دَخْله لم يجد شيئاً يدخره لينمي به حياته ويُحسِّن من مستواه ويرتقي بحياته، وعندها يلوم نفسه لأنه يرى غيره يرتقي ويُرفّه حياته وهو لا يستطيع.
وهذا المعنى أوضحه الحق سبحانه في قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [الإسراء: 29].
والمعنى: ملوماً حين تمسك وتضنّ، محسوراً حين تسرف وتبذر، لأنه سيجد أهل الوسطية يعيشون عيشة السعداء، لا لومَ ولا حسرة. والعاقل هو الذي يُخضِع مصرفه لدخله، لا أنْ يُخضع دخله لمصرفه، لأنك حين تخضع دخلك لمصرفك فلابدَّ أنْ تمتدَّ يدك للاقتراض من الناس، وهذا سيتعبك ويشقّ عليك، وسوف تُعييك الحيل، ويقبض الناس عنك نفوسهم، وتهون في أعينهم حتى تعيشَ بسبب ذلك في كرب.
إذن: نقول: الإسراف تجاوز الحدّ فيما يعود عليك بالشر والضرر، لذلك قال تعالى: { أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [الزمر: 53] أما الإسراف الذي يعود عليك بالخير فهو إسراف لك لا عليك كالذي يدفع زكاة ماله عشرة بالمائة بدلاً من 2.5 بالمائة، لأنه أيقن أن هذا هو الباقي له والمدَّخر عند الله، فواحد يعمل لأمر دنياه فحسب، وواحد يعمل للدنيا وللآخرة.
لذلك لما سُئِل الإمام علي رضي الله عنه: يا إمام أريد أنْ أعرف أنا من أهل الدنيا، أم من أهل الآخرة؟ قال: ليس عندي جواب هذا السؤال، إنما جوابه عندك أنت، قال: كيف؟ قال: إذا دخل عليك اثنان: واحد بهدية، والآخر يريد صدقة أو معونة، فانظر إلى أيِّهما تبشّ، وبأيهما ترحب، فإنْ رحبتَ بصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا، لأنك تحب مَنْ يعمر لك دنياك، وإن كانت الأخرى فأنت من أهل الآخرة، لأنك تحب مَنْ يعمر لك آخرتك.
وتعرفون قصة الشاة التي
"أهديتْ لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصدقت بها السيدة عائشة ولم تبْق منها إلا كتفها، فلما سألها رسول الله: ماذا صنعتِ بالشاة؟ قالت: كلها ذهب إلا كتفها - وكان صلى الله عليه وسلم يحب من الشاة الكتف - فقال صلى الله عليه وسلم: بل بقيت كلها إلا كتفها" .
إذن: الباقي هو ما تصدَّقنا به، والذاهب ما أكلناه، ويؤيد هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "يا ابن آدم، ليس لك من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدقتَ فأبقيتَ" .
ثم يفتح الحق سبحانه طاقةَ الأمل لمنْ أسرف على نفسه، فيقول لهم: { لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّه } [الزمر: 53] القنوط هو اليأس من رحمة الله، لكن لماذا نيأس من رحمة الله؟ قالوا: لأنهم أسرفوا على أنفسهم وبالغوا في المعصية وتمادَوْا فيها، وحين يعود المسرف ويرجع يلوم نفسه ويؤنبها وتعظم ذنوبه في نظره، ولا يرى نفسه أهلاً للمغفرة ولا للرحمة فيداخله اليأس والعياذ بالله.
والمتأمل يجد هذا اللوم للنفس وهذا اليأس من الرحمة هو من جهة أخرى ظاهرة صحية في الإيمان، لأن استعظامَ الذنوب وكوْن المسرف لا يرى نفسه أهْلاً للرحمة، هذا يدل على سلامة إيمانه وعلى خوفه من ربه.
قوله سبحانه: { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53].
قال عنها ابن عباس أنها أرْجَى آية في كتاب الله لأنها تعطي الأمل لكل مذنب مهما كانت ذنوبه. ولولا أن الله تعالى أعقبها بقوله: { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ } [الزمر: 54] لأورثتْ الناسَ التهاون وأطمعتهم في رحمة الله طمعاً يُنسيهم عذابه ونقمته، فالمؤمن يتقلًّب في حركة حياته بين الخوف والرجاء، ولا بدَّ له منهما معاً.
نعم ربك غفور رحيم، لكن لا بدَّ لكي تكون موضعاً لهذه الرحمة ومُتعلِّقاً لهذه المغفرة، لا بُدَّ أنْ تنيب إلى الله، وأنْ ترجع إليه رجوعاً صادقاً مخلصاً، لأن الذي يذنب ويتوب، ثم يذنب ويتوب كالمستهزئ بربه، نعوذ بالله من هذا.
لما قال ابن عباس عن هذه الآية أنها أرجى آية في كتاب الله قال أحد جلسائه: وأنا أرى أن أرجى آية في كتاب الله هي قوله تعالى
{ { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } [الرعد: 6] وأنا أنتقد العلماء الذين يفسرون { { عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ } [الرعد: 6] بمعنى: مع ظلمهم، وهذا لا يستقيم، ومعنى الآية بحيث نقول عنها أنها أرجى آية في كتاب الله، ونلاحظ هنا أن (مع) حرفان أما (على) فثلاثة حروف، فلا بدّ أن المعنى الذي تؤديه على لا تؤديه مع، لأنه ما دامت هنا مغفرة للذنب، والذنب يتطلب صفة القهار والجبار والمنتقم، لكن مغفرة الله تعلو على الذنب فتمحوه، وهذا المعنى لا تؤديه مع.
وهنا وقفة للمستشرقين الذين يحاولون النَّيْل من أسلوب القرآن، وقد رأوْا تعارضاً بين قوله تعالى هنا: { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53] وبين قوله سبحانه:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: 48].
ونقول لهؤلاء: جهلكم بلغة القرآن ومعطيات الأسلوب أوقعتكم في هذا الخطأ، لأن الذنب يعني ارتكاب جُرم جرَّمه الله وجعل له عقوبة، والشرك بالله ليس ذنباً بهذا المعنى، لأن الشرك يُخرِج صاحبه من الملة أصلاً، وعليه فليس بين الآيتين تعارض كما تظنون.
قالوا: نزلت هذه الآية: { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ .. } [الزمر: 53] نزلتْ في شأن وحشي قاتل سيدنا حمزة في أُحُد لما أخذت هندٌ كبد سيدنا حمزة ولاكتْها. ونقول: لقد قُتِل حمزة في أُحُد ولم يُسلم وحشي بعدها، إنما أسلم بعد فترة طويلة، لذلك قال الذين يريدون أنْ يُوفِّقوا بين الأقوال: لعل وحشياً لما قتل حمزة وتذكر مكانته في الإسلام، وأنه أسد الله قنطَ من رحمة الله، وهذا القنوط قد يدعوه إلى المزيد من الشر والفجور، وقابله أحد الصالحين وقال له: لا تقنط من رحمة الله، فقد قال الله تعالى: { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53].
لما سمع وحشيٌّ هذا الكلام أسلم، فما منعه من الإسلام إلا الخوفُ مما فعل، فإذا كان أمر المغفرة على هذا النحو فلماذا لم يسلم، وقد ضمن له ربه المغفرة؟ إذن: الآية سابقة على هذه القصة، ولم تنزل في شأنه خاصة إنما نزلتْ قبله، لكنها قيلتْ له وقَرئت عليه، فكانت سبباً في إسلامه.
وكلمة { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53] قصرت المغفرة والرحمة عليه سبحانه وتعالى، لأن كل ذنب من الذنوب حَقٌّ لله تعالى، وما دام الذنب حقاً من حقوق الله فهو وحده الذي يملك أن يغفره وأن يرحم صاحبه، وله سبحانه أنْ يُؤاخذ ويعاقب، لأن له سبحانه طلاقة القدرة، وليس معه سبحانه إله آخر يعترض عليه.
وهذا المعنى واضح في قصة سيدنا عيسى عليه السلام في قوله تعالى:
{ { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [المائدة: 116-118].
نلحظ هنا في تذييل هذه الآية أنه لم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم فهو المناسب للمغفرة إنما قال:
{ { فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [المائدة: 118] فقوله (العزيز الحكيم) دلَّ على أن عيسى عليه السلام يرى أنهم يجب أن يجازوا في هذه الفرية، ولكن الحق سبحانه له طلاقة القدرة في أنْ يغفر أو يُعذب، ولو كان له سبحانه شريك في هذه المسألة ما قال ذلك، إنما هو سبحانه عزيز حكيم لا يُعقِّب أحدٌ على ما تصرَّف فيه، فهو سبحانه الذي يغفر لهم لا لأنه غفور رحيم، إنما هم يستحقون العقوبة، وإذا غفر الله لهم فلأنه عزيز حكيم.