التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ
٦٤
-الزمر

خواطر محمد متولي الشعراوي

تذكرون ما كان من أمر كفار مكة لما عاندوا رسول الله وصادموه وتأبَّوْا على دين الله، ومع ذلك انتشر الإسلام وزاد أتباعه، فحاول الكفار مهادنة رسول الله فقالوا له: يا محمد تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فردَّ الله عليهم (قُلْ) يا محمد رداً عليهم { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } [الزمر: 64] والاستفهام هنا للتعجب والإنكار، أتريدون مني وأنا رسول الله وأمينه على وَحْيه ورسالته أنْ أعبد غيره، وكلمة (تأمرونِّي) ورد فيها عدة قراءات: تأمرونِّي بتشديد النون وتأمرونني، والنون هنا للوقاية يعني: تقي الفعل من الكسر، وتأمروني بياء واحدة.
وكلمة (أعبدُ) أصلها أن أعبد فلما حُذِفَتْ (أنْ) جاء الفعل على طبيعته بالرفع، وهذه الكلمة دلَّتْ على أن عبادة الأصنام أو عبادة غير الله باطلة أصلاً في العقل، لأن العبادة كما ذكرنا طاعة العابد للمعبود، والأصنام لا منهجَ لها نطيعها أو نعصيها.
لذلك وصف عابديها بالجهل { أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } [الزمر: 64] ولابد أن نفرق بين الجاهل والأمي: الأميّ أفضل من الجاهل، لأنه خالي الذِّهْن ليست عنده قضية يتمسك بها، لذلك يسهل عليك إقناعه، أما الجاهل فليس خالي الذهن بل لديه قضية خاطئة مخالفة للواقع وهو متمسك بها؛ لذلك يحتاج إلى جهد مضاعف، أولاً لتُخرج من عنده القضية الخاطئة، ثم تُدخِل عليه القضية الصحيحة.
لذلك قال الحق سبحانه وتعالى:
{ { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [الأحزاب: 4].
وسبق أنْ تكلمنا في مسألة الحيز وأن الحيز الواحد لا يتسع إلا لشيء واحد، لذلك نلاحظ مثلاً حين نملأ القُلَّة بالماء تخرج فقاعات الهواء أولاً قبل أن يدخل الماء، كذلك القضية الفاسدة في قلب الجاهل لا بدَّ أنْ تخرج أولاً حتى يقبل الصواب، وكلما وافقتْ القضية هواه كان خروجها أصعب، ومن هنا كان الجاهل أشقَّ على المعلم من الأمي.
ومسألة الحيز هذه قضية فطرية ينتهي إليها الفيلسوف والطفل وراعي الشاة، ألا ترى الطفل الصغير يجلس مثلاً بجوار والده فإنْ أراد أخوه أنْ يجلس مكانه قام له وأجلسه، لماذا؟ لأنه يعرف هذه القضية، وأن المكان الواحد لا يتسع إلا لشيء واحد.
إذن: وصف الكفار بالجهل لأنهم مؤمنون بقضية خاطئة متمسكون بها، ومن الصعب زحزحتهم عنها وهي قضية الشرك بالله، وأيُّ جهل بعد عبادة الأصنام؟
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ... }.