التفاسير

< >
عرض

إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٧
-الزمر

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أنْ حَنَّنَ الحق سبحانه الخَلْق بذكر الربوبية التي خلقت وربتْ، وأمرتْ، وبذكر الألوهية التي ضمنتْ صلاح البلاد والعباد، بيَّن سبحانه أنه الغني عن خَلْقه، فقال تعالى: { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } [الزمر: 7] يعني: غني عن إيمانكم ولا تنفعه طاعاتكم.
فهو سبحانه جعل التكاليف لصلاح حالكم لا لمنفعة تعود عليه سبحانه، فأنتم خَلْقه وصَنْعته، والصانع يريد أنْ يرى صنعته على أحسن حال، يرى العبد المؤمن في المجتمع المؤمن الذي تتساند حركته لا تتعاند، وتتفق توجهاته لا تتضارب، الخالق سبحانه لا يحب أنْ يرى خَلْقه يتصارعون، واحد يبني والآخر يهدم.
إذن: هذا هو الهدف من الخَلْق ومن المنهج؛ لأن الله تعالى بصفات الكمال فيه خلق الخَلْق، ولم يُزدْه الخَلْق صفة واحدة لم تكُن له من قبل، إذن: لا حاجة له إليكم. إنما أنتم صنعته ويريد لكم الخير؛ لذلك لما عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبيْنَ أنْ يحملْنها وأشفقْنَ منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جَهُولاً.
وإباء السماوات والأرض والجبال ليس امتناعاً على الله، ولا اعتراضاً إنما تسليم؛ لأن الله خيَّرهم فاختاروا أنْ يكونوا مُسيَّرين.
لكن الإنسان قَبِلها فحكم الله عليه بأنه كان ظلوماً وجهولاً، لكن كيف يُوصَف مَنْ قَبِلَ كلام الله بأنه ظلوم وجهول؟
قالوا: لأنه ظلم نفسه وجهل ما يكون منه، لأنه مخلوق مختار له أنْ يؤمن، وله أنْ يكفر، وله أنْ يطيعَ وأنْ يعصي، ولما عُرِضَتْ عليه الأمانة قبلها؛ لأن الله هو الذي خيَّره. ووثق بنفسه وقدرته على الأداء، لكنه جهل ما يطرأ عليه وما يجدّ من أحداث وأهواء، فظلم نفسه عند التحمُّل وجهل بوقت الأداء، وأسرع في وقت الرضا والقبول، وكان ينبغي عليه أنْ يحسب حسابَ الإنجاز والأداء.
وفَرْق بين التحمُّل والأداء في مسألة الأمانة، لأن الأمانة موكولة إلى ذمة المؤتمن، ولو كتب بها (إيصالاً) أو كان عليها شهود ما سُمِّيتْ أمانة، والإنسان عادة يُقبل على تحمُّل الأمانة وفي نيته أداؤها، كما لو أنك أعطيتَ صديقاً لك مبلغاً من المال يحفظه لك، لحين عودتك من السفر مثلاً، فتراه يرحب ويقبل لكن تعِنّ له ظروف، وتمتد يده إلى هذا المال، وربما جئت فلم تجده، وعندها إما ينكر أو يماطل.
إذن: ظلم نفسه، وجهل وقت الأداء، وجهل أنه ابنُ أغيار، ونفسه متغيرة، أما السماوات والأرض والجبال لما خُيِّرتْ اختارت أنْ تكونَ مُسيَّرة، لا دخْلَ لها بهذه المسألة فاخذت الأمر من قصيره.
ومعنى قوله تعالى: { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } [الزمر: 7] واضح في الحديث القدسي:
"يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتْقَى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، وسألني كل واحد مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخِيْطَ إذا أُدخل البحر، ذلك أنِّي جَوَاد ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أنْ أقول له كُنْ فيكون" .
وقوله سبحانه: { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } [الزمر: 7] دليل على محبته سبحانه لخَلْقه، فكأنه تعالى يقول: أنا غني عنكم، لكن لا أحب أنْ تكونوا كافرين؛ لأنني أريد أن أباهي بكم ملائكتي الذين قالوا عنكم: { { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة: 30].
وورد أن الحق سبحانه يقول لملائكته: أعلمتم أن عبيدي أطاعوني؟ فيقولون: أطاعوك لنعمتك عليهم، فقال: ولو سلبتُ نعمتي لأطاعوني.
لذلك يُمرضهم ويطيعونه، ويُفقرهم ويطيعونه، ويهزمهم ويطيعونه، وينصرهم ويطيعونه. إذن: عبادي يطيعونني لذاتي؛ لأني أستحق أنْ أُحبّ، وأنْ أُطاع بصرف النظر عن نعمي عليهم.
لذلك يقول الحق سبحانه عتاباً للخَلْق الذين يعبدونه خوفاً من ناره، أو طمعاً في جنته: أو لو لم أخلق جنة وناراً أما كنتُ أهلاً لأنْ أُعبد؟
وضربنا مثلاً بالرجل الذي يعمل معه خادم يخدمه مقابل مائة جنيه في الشهر، لكن ضاقتْ حالُ هذا الرجل وأصبحتْ لا تتسع لهذا المبلغ، فقال لخادمه: والله أنا لم أَعُدْ قادراً على دفع هذا المبلغ، ولا أقدر إلا على خمسين جنيهاً، فانظر أنت في أمرك أو ابحث لك عن فرصة عمل أخرى، فقال الخادم: أنا موافق على الخمسين، لكن اشتدتْ الحالُ بالرجل مرة أخرى، حتى أنه لم يَعُدْ قادراً على دَفْع أكثر من عشرين جنيهاً، فرضى بها خادمه ثم عشرة فرضى بها، إلى أنْ قال له: والله حالك معي جعلك تستحق أنْ تُخدم، ولو بلا أجر، هكذا أَمْر الله معنا.
فالحق سبحانه لا يرضى لعباده الكفر لأنهم خَلْقه وصَنْعته، وهو سبحانه حريص على ما يُصلحهم، حريص على أنْ يكونوا مؤمنين لتستقيم أمورهم، وتمتد نِعَمه عليهم من الدنيا إلى الآخرة، فكما أنعم عليهم في الدنيا بِنعم موقوتة يريد أنْ يُنعم عليهم في الآخرة ونِعَم الآخرة باقية خالدة.
لذلك ورد في الحديث القدسي:
"قالت الأرض: يا رب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم، فقد طِعَم خيرَكَ، ومنع شكرك، وقالت السماءُ: يا ربّ ائذن لي أنْ أسقط كِسَفاً على ابن آدم، فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك إلى أنْ قال الحق سبحانه لهذه المخلوقات التي أظهرت غيرتها على ربها عز وجل: دَعُوني وخَلْقي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم" .
{ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } [الزمر: 7] فإن تشكروا يرضى لكم الشكر، ويعجبه منكم، ويحبه لكم، ويجزيكم عليه خيراً، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: { { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ .. } [إبراهيم: 7]، فالشكر على النعمة يعطينا مزيداً من النعمة، فنشكر عليها فتعطينا المزيد، وهكذا يظل الشكر دائماً والنعمة دائمة.
وقوله: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الزمر: 7] أي: لا تحمل نفسٌ مذنبةٌ ذنوبَ نفسٍ أخرى، يعني: سأكون عادلاً بألاَّ أحمل أحداً ذنب غيره، فكلّ مُعلّق من عرقوبه.
وهذه الآية وقف عندها بعض المستشرقين يقول: إنها تتعارض وقوله تعالى:
{ { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت: 13] نعم ظاهر الآيتين التعارض، لكن أنت لم تفهم مَناط الوِزر.
فالقاعدة العامة أنه لا يحمل أحدٌ ذنبَ أحد، أما هؤلاء فيحملون أوزارهم وأوزار الآخرين، لأن الآية هنا تتحدث عن رؤوس الضلال وقادة الكفر الذين ضَلوا في أنفسهم، وأضلّوا غيرهم، فالوزر الأول وزْر ضلالهم في أنفسهم وأوزار الآخرين الذين أضلوهم وأغووهم وزينوا لهم الضلال. إذن: فالمعنى مختلف.
{ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ } [الزمر: 7] يعني: إنْ كنتُ قد بدأتُ خَلْقكم بالإكرام لكم، وقابلتم هذا الإكرام بالجحود، ولم تؤدوا حَقّه بالإيمان بي والطاعة لمنهجي، فاعلموا أنكم سترجعون إليَّ ولن تفلتوا مني { فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الزمر: 7] أي: يخبركم بما كان منكم.
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [الزمر: 7] إذن: تذكروا دائماً هذه المسألة، واحسبوا حسابها قبل فوات الأوان.
وهذه الآية تحذير من الحق سبحانه، وبيان للعقوبة من شأنه أنْ يردع الناسَ عن الجرائم، فلا تقع ولا تحدث العقوبة أصلاً، وهذا من رحمة الخالق بالخَلْق، فهو سبحانه يريد لهم الخير، ويريد لهم أنْ ينعموا بنعمه في الآخرة، كما نَعِموا بنعمه في الدنيا.