التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٢٣
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَـذَّابٌ
٢٤
فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ ٱقْتُلُوۤاْ أَبْنَآءَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَٱسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ وَمَا كَـيْدُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ
٢٥
-غافر

خواطر محمد متولي الشعراوي

الحق سبحانه يذكر هنا قصة سيدنا موسى عليه السلام لأنها امتازت على قصص الرسل السابقين له، من حيث إنهم جاءوا ليشفوا الناس من بعض الأمراض العقدية، ويخرجوهم من جاهلية افعل ولا تفعل، ويعيدوهم إلى الجادة، أمَّا سيدنا موسى فقد جاء ليجابه رجلاً ادعى الألوهية وتكبَّر وتجبَّر فكانت مهمته أصعب، لذلك كان أكثر الرسل قصصاً في القرآن الكريم.
قوله تعالى: { بِآيَاتِنَا .. } [غافر: 23] المراد الآيات الواضحات التسع التي أُوتيها موسى عليه السلام، تأييداً له وبرهاناً على صِدْق رسالته وأولها العصا، وللعصا في قصة سيدنا موسى تاريخ ومواقف، فبها ضرب البحر فصار كل فِرْق كالطود العظيم بها انفلق البحر وتجمد الماء، وبنفس العصا ضرب الحجر فانفجرتْ منه اثنتا عشر عيناً، إذن: المسألة ليست في الماء والجبل، إنما معجزة خالق الماء وخالق الجبل الذي يقول للشيء: كُنْ فيكون.
لذلك وقف المستشرقون عند قصة سيدنا موسى، ورأوا أنها أخذتْ النصيب الأوفر بين موكب الرسالات وفصَّلها القرآن تفصيلاً ظنوه تكراراً معاداً، خاصة في مسألة العصا، حيث ذُكرت في ثلاثة مواقف، هي في الحقيقة ليست تكراراً إنما هي لقطات مختلفة لحدث متجمع، فأول ما أعطى الله موسى العصا معجزةً سأله عنها:
{ { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 17-18].
وقلنا: إن موسى لم يرد على قدر السؤال لأن الذي يسأله ربه فأراد أنْ يطيل أَمَد الحديث مع ربه عز وجل، فلم يَقُلْ عصا أو عصاي، فلما أحسَّ أنه أطال أجمل وقال:
{ { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 18].
الموقف الثاني الذي ذُكِرت فيه العصا لما أراد الحق سبحانه أن يدرب موسى على استخدامها، وأنْ يجربها هو بنفسه ليكون على استعداد ودُرْبة حينما يواجه مُدَّعي الألوهية فرعون فقال له:
{ { قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ * قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلأُولَىٰ } [طه: 19-21].
هذا هو المطلوب من إجراء هذه التجربة أمام موسى، أن يخاف منها، وأنْ يراها على حقيقتها وهي حية، ولو أنها ظلتْ على حالتها عصا ما خاف منها موسى، ولما قال له ربه
{ { وَلاَ تَخَفْ .. } [طه: 21].
ثم كان الموقف الأخير للعصا حين التقى موسى بسحرة فرعون وفي حضرته حين جابه سِحْرهم بعصاه التي ألقاها فراحتْ تلقف ما صنعوا، وعن هذا الموقف قال تعالى:
{ { قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ } [طه: 65-68].
إذن: ليس في ذكر عصا موسى تكرار، إنما هي مواقف مختلفة وحالات عِدَّة للشيء الواحد.
وقوله { وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [غافر: 23] السلطان هو الحجة الواضحة، والسلطان هو القوة، إما قوة البرهان والحجة، وإما قوة القهر والغلبة، كما ورد في حوار الشيطان يوم القيامة:
{ { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي .. } [إبراهيم: 22].
يعني: لم يكن لي سلطان حجة تقنعكم، ولا سلطان قهر وقوة ترهبكم وتجبركم على المعصية، بل كنتم على (تشويرة) مجرد أن دعوتكم استجبتم
{ { فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ .. } [إبراهيم: 22] نقول: صرخ فلان فأصرخته يعني: أزلتُ أسباب صراخه.
وقوله: { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ .. } [غافر: 24] نعم كان فرعون هو رأس الفتنة ومُدَّعي الألوهية، لكن ذكر معه هامان لأنه كان وزيره ومساعده، وقارون لأنه كان صاحبَ خزانته، فكان الثلاثة شركاء، لذلك اشتركوا أيضاً في اتهام موسى { فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَـذَّابٌ } [غافر: 24].
{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ مِنْ عِندِنَا .. } [غافر: 25] أي: بالآيات { قَالُواْ ٱقْتُلُوۤاْ أَبْنَآءَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ .. } [غافر: 25] مسألة قَتْل الأبناء جاءت من فرعون مرتين: الأولى: أيام كان موسى طفلاً، وعلم فرعون من المنجِّمين أن زوال ملْكه سيكون على يد أحد أبناء بني إٍسرائيل، فأخذ يقتل الأبناء الصغار مخافةَ هذا الولد الذي سيُولد ويزول مُلكه على يديه.
والعجيب أن نرى هنا غباء فرعون وتغفيله في قتل أبناء بني إسرائيل وحرصه على ألاَّ يفلت منهم أحدٌ، حتى أن رجاله كانوا يدخلون البيوت يبحثون فيها عن الأطفال الصغار.
وقد أظهر هذا الموقف غباءه من ناحيتين، أولاً: أنه يقتل الأبناء الصغار مع أن النبوءة تقول: إن زوال مُلْكه سيكون على يد واحد منهم، ثم يأتيه غلام بهذه الطريقة المريبة: صندوق في البحر بداخله غلام صغير جاءه إلى باب بيته، فيطمئن إليه ويأخذه ويُربِّيه على عينه ويغفل عما يُراد به.
وهذا الموقف يوضحه قوله تعالى:
{ { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ .. } [الأنفال: 24] نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف يشاء.
وقوله: { وَٱسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ .. } [غافر: 25] أي: اقتلوا الأبناء الذكور، لأنهم مصدر الخوف، ومنهم يكون التمرد، ومنهم مَنْ يزول مُلْك فرعون على يديه، أمَّا النساء فاتركوهن أحياء للخدمة وللإذلال.
وهذا يفسر لنا: لماذا كان العرب إذا خرجوا للحرب أخذوا معهم نساءهم، لكي يكُنَّ معهم في مصير واحد، فإنِ انتصروا عادوا سالمين، وإنْ قُتِلوا قُتِلوا جميعاً حتى لا يبقى النساء بعدهم للأَسْر والسَّبي والإذلال.
{ وَمَا كَـيْدُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [غافر: 25] نعم كان هذا كيداً من فرعون وأعوانه، لكن هل أنفذ كيده ببني إسرائيل؟ لا بل ردَّ الله كيده عليه وباء بالضلال والخسران.