التفاسير

< >
عرض

مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ
٤
-غافر

خواطر محمد متولي الشعراوي

الرسول صلى الله عليه وسلم جاء رسولاً من عند الله بما يُخرج الجاهلية إلى مقام العلم عن الله، وبذلك تتطهر حركة حياتهم من كل ما يعطي في الكون ذبذبة أو كلّ ما يعطي في الكون تعانداً حتى يصير الكون كله متسانداً متعاضداً، بحيث لا يبني واحد ويهدم الآخر، فيقول سبحانه: { مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [غافر: 4].
الجدل: إبرام الشيء إبراماً حقيقياً بحيث يستحيل أنْ ينقض، وهذه المسألة مثل عملية فَتْل الحبال عندنا في الفلاحين، حيث يأخذ الرجل شعيرات التيل المعروف ويظل يبرم فيها، إلى أنْ تتداخل الشعيرات وتتماسك وتتداخل، لذلك نرى الحبل قوياً متيناً.
وسُمِّي المراءُ بين الناس جدلاً، لأن كل واحد من الطرفين يريد أن يُحكِّم منطقه وحجته ليغلب الآخر، فكلٌّ منهم يجادل لحساب نفسه، صاحب الحق يجادل لإظهار حقه، وصاحب الباطل يجادل ليُحِقَّ باطله. أي: يُظهره في صورة الحق.
لكن هل الجدل مذموم في ذاته؟ لا، لأن الجدل بحسب الغاية منه؛ لذلك يقول تعالى:
{ { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [العنكبوت: 46] فدلَّ ذلك على أن في الجدل ما هو حسن وأحسن، والجدل الحسن هو الذي يسعى لإيجاد الحجة على أن الحق حق والباطل باطل، فإنْ كان العكس فهو جدل باطل مذموم.
لذلك نفهم من قوله تعالى: { مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [غافر: 4] أن هذا هو الجدل الباطل لأن الجدل يكون عنها لا فيها، يجادل عنها أي: يدافع عنها ليثبت صدقها ويُظهر الحق الذي جاءتْ به، أما يجادل في الآيات. أي: يحاول التشكيك فيها وتكذيبها.
وقلنا: إن آيات الله على ثلاثة أنواع، وهذه هي التي يحدث فيها الجدل: الآيات الكونية التي تشهد بوجود الخالق الأعلى سبحانه، والآيات البينات المعجزة التي تثبت صدق الرسول في البلاغ عن ربه، والآيات القرآنية التي تحمل الأحكام.
فالآيات الكونية التي تثبت قدرة الله الخالق الأعلى سبحانه هي التي نشاهدها في الأرض وفي السماء، في الشمس والقمر والنجوم والماء والهواء .. إلخ وهذه الآيات أوجدها الخالق سبحانه على هيئة الصلاح، وعلى قانون ثابت لا يتخلف، ولا دَخْلَ للإنسان في حركتها.
وسبق أنْ قلنا: إن الفساد في الكون يطرأ من تدخل الإنسان وامتداد يده إلى مخلوقات الله بغير قانون الله الذي خلق، ولو تدخَّل الإنسان في الأشياء بقانون الخالق ما رأينا هذا الفساد الذي يعمّ الكون الآن؛ لذلك يوضح لنا الحق سبحانه هذه القضية، فيقول:
{ { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } [الأعراف: 56].
والمعنى: أن الحق سبحانه خلق الأرض على هيئة الصلاح، فإياكم أنْ تفسدوها؛ لذلك يرجع الحق سبحانه الفساد الحادث في الأرض إلى الناس، فيقول:
{ { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ } [الروم: 41].
نعم، لوَّثنا المياه وألقينا فيها النفايات والمخلَّفات فماتت الأسماك وظهرت الأمراض، أفسدنا الهواء وأفسدنا التربة الزراعية .. إلخ ذلك لأننا تدخَّلنا في مخلوقات الله بغير قانون الله، وبغير منهج الله الذي وضعه لصلاح الكون.
لكن أيّ هذه الآيات الثلاث يجادل فيها الكافرون؟ بالطبع هم لا يجادلون في الآيات الكونية ولا يتعرضون لها، لأنهم أولاً ينتفعون بها ويروْنَ فيها نظاماً دقيقاً محكماً لا يشذّ ولا يتخلف، فلا مجالَ إذن للجدل فيها. إنما يجادلون في الآيات الأخرى في آية المعجزة، وفي آيات الكتاب حاملةً الأحكام فيُشككون فيها.
أما المعجزة فقالوا:
{ { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
إذن: اعتراضهم هنا ليس على القرآن في ذاته إنما في مَنْ أنزل عليه، فالقرآن في نظرهم لا غبارَ عليه لولا أنه نزل على محمد، لكن كفرهم يُوقعهم في التناقض فيقولون:
{ { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32].
وكان المفترض بالعقل أنْ يقولوا: فاهدنا إليه، فهذا دليل على شكِّهم في القرآن وعدم تصديقهم لما جاء به؛ لذلك حكى القرآن عنهم قولهم:
{ { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [فصلت: 26].
وتأمل هنا النهي عن مجرد السماع للقرآن، لماذا؟ لأنهم عرب ولهم فطرة لغوية وخبرة بالأداء والبيان، فلو استمعوا للقرآن لابدَّ أنْ يتأثروا به، وكل من استمع القرآن بقلب خَالٍ من ضده لابد أنْ يقتنع به، وإلا فلماذا كان نهيهم عن مجرد السماع؟
لذلك لا يكتفون بالنهي عن السماع بل يُشوِّشون عليه حتى لا يتمكن السامع من السماع
{ { وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [فصلت: 26] هذا دليلٌ على القرآن لو تُرِكَ ليصل إلى الآذان لابدَّ أنْ ينفذ إلى القلوب فيعمرها ويلفتها إلى الحق إنْ كان الذهن خالياً من الباطل، فإنْ كان القلب مشغولاً بعقيدة مخالفة لا يتأثر، بدليل قوله تعالى: { { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً } [محمد: 16].
وقال فيمَنْ يؤثر فيه سماع القرآن:
{ { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [التوبة: 124].
فإنْ قلتَ: كيف يكون للشيء الواحد أثران متضادان؟ نقول: لأن القابل للفعل مختلف، وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بالنفخ في الأيدي للتدفئة في البرد، والنفخ في كوب الشاي الساخن ليبرد، فالنفَس واحد لكن القابل للنفَس مختلف، ولا شكَّ أن حرارة النفَس أقلُّ من حرارة كوب الشاي، لكنها أشدُّ من الحرارة في الأيدي وقت الشتاء, كذلك يختلف أثر القرآن بالنسبة للسامع.
لذلك ينبغي عند سماع القرآن ألاَّ توجد حُجب تحجبه عن القلب، والحق سبحانه وتعالى يمنع لغط الجماهير في الجدل البياني، ففي الضوضاء تختلط الأصوات وتتداخل، وتُستر عيوب الشخص في الآخرين، وهذا يحدث مثلاً في المظاهرات فلا نستطيع أن نسند الصوت إلى صاحبه، وهذه المسألة توضح لنا الحكمة من قوله تعالى:
{ { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [الأنبياء: 110].
وقد وقف المستشرقون عند هذه الآية يقولون: ما الميزة في علم الجهر والجميع يعلمه، فلماذا يمتنّ الله بعلمه؟ نقول: قوله تعالى:
{ { وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [الأنبياء: 110] دلَّ على أن الجهر أيضاً من الجماعة بمعنى: ويعلم ما تجهرون، فالحق سبحانه هو الذي يعلم كلَّ صوت ويعلم صاحبه، ويميز الأصوات ويردها إلى أصحابها، وهذه العملية في ذاتها أصعب من علم الكتمان.
ومن جدالهم في آيات الله قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ساحر وكاهن، وقولهم عنه شاعر .. إلخ وهذه أقوال باطلة مردودة على أصحابها والرد عليها يسير، فلو كان محمد ساحراً سحر مَنْ آمن به، فلماذا لم يسحركم أيضاً كما سحرهم؟
إذن: بقاؤكم على حالتكم هذه دليلٌ على كذبكم في هذا الاتهام، أما كاهن فما جربتم عليه قبل ذلك شيئاً من الكهانة، ولا سمعتم منه كلاماً كالذي يقوله الكهان.
والأعجب من ذلك أنْ يتهموا رسول الله بأنه شاعر، وأن ما يقوله شعر، وهم أمة الشعر وفرسان هذا الميدان، وهم أدرى الناس به، ومَنْ كان عنده أدنى دراية باللغة يستطيع أنْ يُفرِّق بين الشعر والنثر وأن يتذوَّق كلاً منهما ويشعر به إذا انتقل مثلاً من الشعر إلى النثر، أو من النثر إلى الشعر.
فحين تقرأ مثلاً: هذا العتب محمود عواقبه، وهذه الجفوة غمرة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي أنْ أبطأ سيبه أو أخطأ غير ضنين غناؤه، فأبطأ الدِّلاء فَيْضاً أملؤها، وأثقل السحائب مَشياً أحفلها، ومع اليوم غد ولكل أجل كتاب.

فإنْ يكُنْ الفِعْلُ الذِي سَاءَ وَاحِداً فَأفْعَالُه اللاَّئِي سُرِرْنَ أُلُوفُ

لابدّ إذن أن تفرق ههنا بين الشعر والنثر، فكيف بهم وهم أمة البلاغة والفصاحة، الأمة التي جعلت للحكمة أسواقاً ومعارض، ومع ذلك لا يفرِّقون بين الشعر والقرآن.
القرآن ليس شعراً، بل هو نسيج فريدٌ وحده، واقرأ مثلاً:
{ { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ .. } [يوسف: 31-32].
هكذا كلام نَثْر كله لا تشعر فيه بشيء من الشعر، ومع ذلك لو أخذت مثلاً:
{ { فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } [يوسف: 32] لوجدتها على وزن من أوزان الشعر، كذلك في قوله تعالى: { { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الحجر: 49] لو حَوَّلتها إلى تفعيلات تعطيك بحراً من بحور الشعر، لكن لا تشعر أبداً أنك انتقلتَ من شعر إلى نثر، أو من نثر إلى شعر، ذلك لأن القرآن كما قلنا نسيج وحده.
لذلك قلنا: إن كماله لا يتعدى إلى غيره، فالفقيه الحافظ للقرآن تجده يجيد القراءات السبع، ومع ذلك لا يجيد كتابة خطاب، ونحن ننصح الطلاب بقراءة كتب الأدب مثل كتب المنفلوطي أو العقاد مثلاً ليستقيم أسلوبهم ويتمكنوا من الكتابة والتعبير السليم؛ ذلك لأن القرآن لا يتعدَّى إلى غيره، أما كتب الأدب فتتعدَّى إلى الأسلوب وتحسنه، القرآن يظل كماله في ذاته.
وكان من جدالهم في آيات الله أنْ قالوا عن رسول الله:
{ { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ .. } [النحل: 103] وحددوا شخصاً بعينه، لكن ردَّ عليهم القرآن بما يعني: إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذكوراً { { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [النحل: 103].
ثم قالوا: مجنون، وعجيب منهم أن يتهموا رسول الله بالجنون وهم يعلمون أدبه وخلقه قبل بعثته، وصاحب الخلق الكريم لا يكون أبداً مجنوناً، لكن هذه كلها شبهات المفلسين الذين لا يجدون حجة تقدح في رسالة محمد، فماذا يقولون غير هذا التخبّط الأعمى؟ هذا جدل في شخص رسول الله، وكانوا يقولون: ابن أبي كبشة، لكن هيهات أنْ تنال هذه الافتراءات من شخص رسول الله.
ثم يجادلون في أحكام الله، فيقول مثلاً: لم يحرم الله الميتة؟ وكيف أن التي ماتت وحدها يعني أماتها الله مُحرَّمة، والتي تميتها أنت - أي: بالذبح - مُحلَّلة؟ يعني في نظرهم أن الموت واحد، فلماذا تحرم هذه وتحلّ هذه؟
وهم يعترضون على آيات الأحكام لأنها تأتي عامة لا تفرق بين السادة والعبيد، فالحكم واحد للجميع وهم قد ألفوا السيادة.
وقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ .. } [غافر: 4] أي: ستروا واجب الوجود الأعلى الذي خلقهم وخلق الكون كله من حولهم، بدليل إقرارهم هم بذلك في الآيات الكونية:
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ .. } [لقمان: 25] فهم وإنْ كانوا يؤمنون بهذه الآيات الكونية إلا أنهم كفروا بخالقها سبحانه، وستروا الواجب الأعلى الذي ينظم حركة الحياة لخَلْقه جميعاً بحيث تتساند حركة الحياة ولا تتعاند لتظل عمارة الكون التي أرادها الخالق سبحانه.
وسبق أنْ أوضحنا أن كلمة كفروا في ذاتها دليل الإيمان، لأن الكفر يعني الستر والستر يقتضي مستوراً، فالمستور إذن وُجِد أولاً قبل الساتر، وما دام ستروا بالكفر وجودَ الله، فالأصل أنه موجود.
وقوله: { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ } [غافر: 4] أي: لا يخدعنَّك أن لهم في البلاد سيادة وتمكيناً وعلواً ومهابة، بحيث لا يستطيع أحد أن يتعرَّض لهم في تقلّبهم من مكان لمكان، وفي أسفارهم في رحلة الشتاء والصيف.
ولو أنهم عرفوا حقيقة هذه المكانة، ومَنْ الذي بوّأهم هذه المنزلة ما وقفوا منك يا محمد هذا الموقف، لقد أخذوا هذه المهابة ونالوا هذه المنزلة لجوارهم لبيت الله، والله هو الذي أرسلك إليهم، فكان عليهم أنْ يؤمنوا بك وأنْ يُصدقوك.
وكلمة (تَقَلّبهم) تدل على حركتهم وانتقالهم من مكان لآخر، وتدل على قوة الأبدان؛ لذلك كانت كل قبائل العرب تهابهم، جاءت هذه المنزلة لقريش من موسم الحج، حيث تأتي إليهم كل القبائل من جزيرة العرب فتكون في حماية قريش في الموسم، ومن هنا آمنوا في تنقلاتهم وكان عليهم أنْ يراعوا هذه النعمة، لكنهم جحدوا بها فصدق: عليهم قوله تعالى:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ } [إبراهيم: 28].
كيف ذلك؟ اقرأ:
{ { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [الفيل: 1-5].
تعرفون قصة أبرهة لما جاء ليهدم الكعبة ليصرف الناسَ عن بيت الله ويبني كعبة أخرى في صنعاء يحجّ الناس إليها، وتعرفون ما كان من أمر هذا الجيش، وكيف ردَّه الله بقدرته حتى قيل إن الفيل الضخم الذي كان يتقدم الجيش توقف عن السير نحو الكعبة، في حين يسير في أيِّ اتجاه آخر وأن أحدهم اقترب من الفيل وقال له: ابرك محمود وارجع راشداً فإنك ببلد الله الحرام. فانصرفوا بعد أنْ أمطرهم الله بحجارة من سجيل، وهزمهم بقدرته تعالى. المهم ماذا قال سبحانه بعد هذه السورة مباشرة؟
قال:
{ { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ } [قريش: 1-2] فكأن في بقاء الكعبة بقاءً لسيادة قريش، وبقاءً لأمنها وسلامتها بين القبائل العربية، فأبقى الله لهم بذلك أنْ يألفوا رحلة الشتاء والصيف.
إذن: العلة من
{ { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [الفيل: 5] جاءت في { { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [قريش: 1].
وإلا لكانَ لك أن تتعجب من أول السورة:
{ { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [قريش: 1] وتسأل عن العلة، فإنْ فصلتَ العلة هنا عن المعلول، فجاء كل في سورة إلا أنهما في نسَق واحد، وسبق أن أوضحنا أن سور القرآن كله قائمة على الوصل فتقرأ: { { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [الفيل: 5] بسم الله الرحمن الرحيم { { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [قريش: 1].
فإنْ قلتَ: لماذا لم تأتِ في سورة واحدة؟ لماذا جاءت العلة في سورة والمعلول في سورة أخرى؟ قالوا: الفصل بين الشيء وسببه ليكون الشيء له حكم، والسبب له حكم.
إذن: جعلهم كعصف مأكول لئلا تزولَ الكعبة ولو زالت الكعبة لزالتْ سيادة قريش ومهابتها، فأبقى الله لهم السيادة والمهابة ليتنقلوا بين الشمال والجنوب لا يجرؤ أحد على التعرض لهم، وسوف يترتب على ذلك قوام حياتهم فيطعمهم من جوع، ويُؤمّنهم من خوف، يُطعمهم بالتجارة وحركة البيع والشراء، ويُؤمنهم بألاَّ يتعرض لهم أحدٌ بسوء.
ثم يوضح علة ذلك فيقول:
{ { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 3-4] فهم يتقلبون في نعمة الله، وكان عليهم ألاَّ يكفروها.
فقوله تعالى: { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ } [غافر: 4] لأن الله تعالى لم يهملهم إنما فقط يمهلهم. فإنْ قلتَ: فما حكمة الإمهال؟ يعني: ما دام أن الله تعالى لم يهملهم، فلماذا لم يأخذهم من البداية؟
قالوا: لأن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وجعل دينه خاتم الأديان ومهيمناً على الزمان والمكان، فلا نبيَّ بعده وللرسول مدة ينتهي فيها دوره في الحياة، وينتقل إلى الرفيق الأعلى، ثم يحمل رسالته من بعده جنود الحق الذين محَّصتهم الشدائد.
لذلك قلنا: إن صناديد الكفر الذين عذّبوا المسلمين الأوائل واضطهدوهم كانوا فيما بعد من جنود الإسلام، لماذا؟ لأن هذا الاضطهاد وهذا التعذيب هو الذي محَّص المسلمين وأبعد ضعاف الهمة وضعاف الإيمان الذين فتنهم التعذيب، وأرهبهم الاضطهاد حتى لم يَبْقَ في ساحة الإيمان إلاَّ الأقوياء الجديرون بحمل هذه الرسالة وتحمُّل تبعاتها، لأنها رسالة خالدة باقية في الزمان والمكان كله.
فالحق سبحانه ما أهمل الكفار إنما أمهلهم لمهمة، هي أنهم سيساهمون في تربية هذا الجيل الذي سيحمل دعوة الله:
{ { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ .. } [الأحزاب: 39].
هؤلاء هم الجيل المحمدي الذي حمل راية الإسلام، وساح بها في كل الأنحاء لا ينتظر على ذلك أجراً مُقدماً إنما ينتظر الأجر من الله في الآخرة.
وهذا هو الفرق بين دعوة الحق ودعوة الباطل، فأهل الحق لا ينتظرون أجراً مقدماً، أما أهل الباطل فيأخذون أجرهم قبل البدء في العمل، لذلك كل رسل الله قالوا هذه الكلمة:
{ { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 109].
نعم أجرهم على الله لأنه غالٍ لا يقدر عليه إلا الله، فلا أحد يستطيع أنْ يجازي الرسولَ على رسالته في هداية قومه ولو أعطاه مال الدنيا كلها.
والتقلُّب في البلاد أي: التنقُّل من مكان لمكان فيها لا يتم إلا بعدة أشياء أهمها: سلامة الأبدان لتحمُّل مشقة السفر، ثم الأمن من خوف الطريق، ثم وجود كفايات له في المنازل التي ينزل فيها في طريقه، لذلك يقول تعالى في موضع آخر:
{ { أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [النحل: 45-46].
يعني: في أوْج قوتهم وتمكّنهم من الحركة والتنقل يأخذهم الله بالعذاب، هذا لون من الأخذ
{ { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ .. } [النحل: 47] أي: يخيفهم أولاً ويفزعهم قبل أنْ يأخذهم وهذا لون آخر، كالذين نزلت بهم الصاعقة فأفزعتهم قبل أنْ يحلّ بهم عذاب الله، هذان لونان من أخْذ الله للكافرين.