التفاسير

< >
عرض

فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ
٤٥
ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ
٤٦
-غافر

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله تعالى: { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ } [غافر: 45] يعني: لم يحدث له مكروه، وهذا أمر يدعو للعجب، لأن هذا الرجل يقف أمام مَنْ؟ أمام فرعون ومع ذلك لم يُصِبْه مكروه ولم تضره محاولات فرعون للانتقام منه. لكن ولِمَ العجب؟ الوقاية من الله { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ } [غافر: 45] لأن الفعل لا يُترك لذاته ولا يُؤخذ لذاته، إنما الفعل بمقارنة فاعله، لا بدَّ من مصاحبة الفعل للفاعل، فالفعل قد يكون واحداً لكن يختلف الحكم فيه سعادةً به أو شقاءً بالنظر إلى الفاعل.
قلنا: هَبْ أن ولدك دخل عليك والدم يسيل من وجهه، ما أول سؤال تبادره به؟ مَنْ فعل بك هذا؟ إذن: فأنت لم تنشغل بالدم الذي يسيل منه بقدر انشغالك بمَنْ فعل هذا. فلو قال لك: عمي فلان ضربني تهدأ وتقول له: لا بدَّ أنك فعلتَ شيئاً يستحق العقاب فضربك، لكن إنْ قال لك: ابن فلان ضربني تقول: نعم لأنه يكرهنا وكذا وكذا. وتقيم الدنيا ولا تقعدها.
إذن: فكل فعل لا يُحكم عليه لذاته إنما بضميمة فاعله، ومعرفتك للفاعل هي التي يترتب عليها ردُّ الفعل منك.
وهذه المسألة حَلَّتْ لنا الإشكال في قضية الإسراء والمعراج، وفسَّرتْ لنا قوله تعالى:
{ { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا } [الإسراء: 1] فما دام أن الذي أسرى هو الله فلا عجبَ إذن، فالفعل يتناسب وفاعله، ونزه الله عن الزمان والمكان وعن كل ما يشبه الخَلْق. ولو قال: محمد سَرَى لكان لنا كلام وجدال، أَمَا وقد أسرى اللهُ به فلا عجبَ في ذلك. كما لو قلت: صعدتُ بابني الرضيع قمة الهملايا، أيقول قائل: كيف صعد الرضيعُ قمة الهملايا؟
كذلك الحال هنا، وحين تكون الوقاية من الله فأيُّ قوة إذن وأيُّ طاغية أو جبار يستطيع أنْ يُؤذيك، والله واقيك منه. وقد جاءت هذه الوقاية إجابةً ورداً لتفويض الأمر لله تعالى، فالرجل المؤمن قال: { وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } [غافر: 44] فجاء الرد فوراً { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ } [غافر: 45].
وهذه الآية وقف عندها الإمام جعفر الصادق واستنبط منها بعض اللطائف والحكَم حين قال:
عجبتُ لمن خاف ولم يفزع إلى قوله تعالى:
{ { حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } [آل عمران: 173] لأنِّي سمعت الله بعقبها يقول: { { فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ .. } [آل عمران: 174].
وعجبتُ لمن مُكِر به ولم يفزع إلى قوله تعالى: { وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } [غافر: 44] فإنِّي سمعت الله بعقبها يقول: { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ } [غافر: 45].
وعجبتْ لمن طلب الدنيا وزينتها ولم يفزع إلى قوله تعالى:
{ { مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } [الكهف: 39] فإنِّي سمعت الله بعقبها يقول: { { فعسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ } [الكهف: 40].
وعجبتُ لمن اغتمَّ - والاغتمام انقباضُ الصدر وضيق النَّفَس دون أنْ تعرف له سبباً - ولم يفزع إلى قوله تعالى:
{ { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] فإنِّي سمعت الله بعقبها يقول: { { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء: 88] يعني: ليست خاصة به وحده.
هذه من دقائق كتاب الله ولطائفه، ومَنْ أخذها وِرْداً له لا يمر به شيء من هذا، ونجَّاه الله منه ووقاه من الخوف ومن المكر ومن الفقر ومن الغمِّ.
ثم إن استجابة الحق سبحانه لعبده المؤمن لم تقف عند حَدِّ الوقاية من عدوه، إنما تعدَّتْ إلى العدو نفسه حيث انقلب الحال ودارتْ الدائرة عليه تأمل: { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ } [غافر: 45] أي: نزل بهم وحَلَّ بهم سوء العذاب، والمراد عذاب الدنيا قبل الآخرة، لأن الإنسان له في حياته ثلاث مراحل: الحياة الدنيا التي نعيشها الآن، ثم حياة البرزخ بعد أن يموت إلى أنْ يُبعثَ يوم القيامة، ثم حياته بعد البعث.
فقوله: { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ } [غافر: 45] أي: نزل بهم قبل الحساب وقبل الآخرة، أما قوله: { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [غافر: 46] فالعرض على النار إذن ليس في الآخرة لأنه قال بعدها: { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [غافر: 46].
عندنا عَرْضٌ ودخول، العرض على النار قبل دخولها، فهو إما في الدنيا أو في البرزخ، وما داموا لم يُعرَضوا على النار في الدنيا فلم يَبْقَ إلا حياةُ البرزخ يُعرَضُون فيها على النار إلى قيام الساعة، وهذا ما نسميه عذاب القبر، ثم يأتي دخولهم النارَ بعد البعث والحساب.
وهكذا جمع الله على المسرفين عذاباً في الدنيا، وعذاباً في البرزخ، وعذاباً أشدّ وأنكَى في الآخرة.
وكلمة { أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [غافر: 46] تثبت أيضاً عذابَ القبر، ففيه عذابٌ شديدٌ لكن عذابَ الآخرة أشدّ، عافانا الله وإياكم من العذاب.