التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَـارَ مُبْصِـراً إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٦١
-غافر

خواطر محمد متولي الشعراوي

الحق سبحانه يذكر هنا آيتين من آياته الكونية هما آية الليل وآية النهار، الليل نعلمه وهو من مغيب الشمس إلى شروقها، والنهار نعلمه وهو من شروق الشمس إلى غروبها، هذا زمن والزمن وعاء الأحداث، وما دام الزمن وعاءَ الأحداث فلكلِّ حدث زمنٌ يقع فيه.
فالحدث الذي يحتاج عملاً له وقت، فحين تعمل بالنهار تتعب جوارحك وتحتاج إلى وقت للراحة، فجعل لك الخالق سبحانه الليل تستريح فيه والنهار تعمل فيه، تستريح بالليل لتستعيد قوتك ونشاطك للعمل في النهار التالي، وهكذا.
فإنْ طرأتْ عليك ظروف منعتْك من راحة الليل، فكيف تكون بالنهار؟ تكون متعباً لا توجد لك قوة تعالج بها شيئاً، فكأن الله تعالى يريد أنْ يُعلِّمنا أن من خلقه متقابلات، ومن حُمْق البشر أنْ جعلوها متعاديات، وهي في الحقيقة متكاملات.
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى:
{ { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [الليل: 1-4].
وهذا يعني أن لليل مهمة، وللنهار مهمة، وللذكر مهمة، وللأنثى مهمة، فلا تظنوا عداءً بين الليل والنهار، ولا بَيْنَ الذكر والأنثى، فكُلٌّ منهما مكمَّل للآخر وبينهما تساند لا تعاند كما يظن البعض.
لذلك يقول تعالى في آية أخرى:
{ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [القصص: 71-72].
وتأمل تذييل الآية هنا وهنا: ففي الليل قال
{ { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } [القصص: 71] لأن الليل تتعطل فيه حاسة البصر، وتبقى الأذن تسمع، وهي آلة الاستدعاء ليلاً، أما في النهار فقال: { { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [القصص: 72] لأن البصر يكون في النهار.
كلمة سرمد، بعض المفسرين يرى أن الليل ليس سرمداً، كذلك النهار بمعنى أنه ليس دائماً مضطرداً، لكن إذا نظرنا إلى حركة الأرض وتعاقُب الليل والنهار وجدنا فيهما سرمدية، لأن الليل حين يغادرنا يذهب إلى آخرين لا أنه سرمد وينتهي.
فهما إذن دائمان سرمديان، لكن السرمدية المنفعية هي السرمدية بالنسبة للمكان الواحد، فلهما سرمدية في ذاتهما سرمدية في كل مكان، أمَّا سرمدية المكان الواحد فتنتهي لتبدأ في مكان آخر.
لذلك يقول تعالى:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [الفرقان: 62] خلفة: يعني يخلف كلّ منهما الآخر، فالليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، هذا الآن واضح لنا كآية كونية، لكن ماذا عن بَدْء الخَلْق أيّهما كان أولاً وخلفه الآخر؟
قالوا: في البدء خلقهما الله معاً في وقت واحد، لأن الشمس خُلقت مواجهة للأرض، فما كان من الأرض ناحية الشمس كان نهاراً، وما حُجِب عنها في الناحية الأخرى كان ليلاً، ثم دارتْ الأرض في فلكها فتعاقب الليل والنهار، وهذا دليل على كروية الأرض ولو كانت مسطحة ما أمكن ذلك.
والعظمة في قوله: { وَٱلنَّهَـارَ مُبْصِـراً } [غافر: 61] أي: مُبْصراً فيه، وقديماً كانوا يعتقدون أن شعاع الرؤية يخرج من العين إلى المرئي، إلى أنْ جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم وأثبت عكس ذلك، وبيَّن أن الشعاع يأتي من الشيء المرئي إلى العين فتراه، بدليل أنك لا ترى ما في الظلام وترى ما في النور حتى لو كنتَ أنت في ظلام، لأن الشعاع ينعكس من المرئي فتراه.
وعليه فالنهار نفسه (مُبْصراً): { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } [غافر: 61] نعم الله صاحب الفضل والتفضل على الناس جميعاً، لأنه سبحانه أعطاهم بلا حَقٍّ لهم عليه سبحانه، فهو متفضل في الإيجاد من عَدَم، ومتفضل في الإمداد من عُدْم، ومتفضل في التكليف، نعم حتى في التكليف متفضل، كيف؟
قالوا: لأنه حين كلّفك كلّفك بشيء يعود نفعه عليك أنت، ولا ينتفع هو منه بشيء، ثم بعد ذلك جازاك عليه، وجعل لك ثواباً، فكأنه سبحانه تفضَّل عليك في التكليف مرتين.
وقوله: { وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [غافر: 61] هذا يعني أن القلة هي الشاكرة، ويُعرف الشكر بزيادة النعم، فالشكر وزيادة النعمة متلازمان، وقد وعد الحق سبحانه:
{ { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7].