التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٨٣
-غافر

خواطر محمد متولي الشعراوي

أي: جاءتهم رسلهم بالآيات الواضحات وبالمعجزات قال: لسنا في حاجة إلى الرسل كما قلنا أن سقراط الفيلسوف قالها على الفطرة، نحن قوم مهتدون بطبيعتنا ولسنا في حاجة إلى رسل، ومع ذلك حكموا عليه بالقتل.
لذلك قلنا: إنهم حكموا عليه ظلماً لأنهم لم يحتكموا في ذلك إلى شيء منطقي، فأنت سويّ السلوك في ذاتك، لكن هل منع عنك سيء السلوك؟ فكان يجب أنْ يوجد طرف محايد يراعي ما لي وما عليّ.
قوله: { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ .. } [غافر: 83] هذا نوع من الفرح الذي ذكرناه، وقلنا: إنه غير مشروع وفرح أحمق. والمراد: فرحوا بما عندهم من العلم الذي يُحاجُّون به القرآن كقولهم:
{ { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ .. } [الجاثية: 24] وهكذا يقول العلمانيون، ومثل قولهم: { { لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا .. } [الأنعام: 148].
فكل قضية تُعرض عليهم يريدون أنْ يعارضوها معارضةً هم مقتنعون بها رغم بطلانها، وهذا نوع من العلم عندهم.
أو المعنى: فرحوا بما عندهم من العلم بظواهر الحياة والحضارات التي أقاموها، فقالوا: لسنا في حاجة إلى الرسل، لأن ما عندنا من العلوم أي المادية فيه كفاية. ونقول: أنتم نظرتم إلى سطحيات الأمور وإلى الأشياء التي تبررون بها فكركم، فقلتم:
{ { لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا .. } [الأنعام: 148] يعني: تتهم الله، وهذا دليلٌ على أنك تريد ذلك.
والبعض يقول أن { فَرِحُواْ .. } [غافر: 83] تعود على الرسل، يفرحون أنْ جعلهم الله هُداة مهديين، لكن هذا القول فيه خروج عن مقتضيات السياق في الآية، ويتعارض مع تذييل الآية { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [غافر: 83] أي: حلَّ بهم ونزل بهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [غافر: 83] يعني: جزاءَ استهزائهم، ومن الاستهزاء قولهم:
{ { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [الأعراف: 106].
وقالوا:
{ { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [الأعراف: 70].
ومعنى { يَسْتَهْزِئُونَ } [غافر: 83] من هُزْء الباطل من الحق، لماذا؟ قالوا: لأن الباطل حين يرى حقاً يدفعه فلا بُدَّ له أنْ يفُتَّ في عَضُد مَنْ يؤمن به، لأنه لو لم يَفُت في عضده جذبه هو إلى الحق؛ ولذلك سمعناهم يقولون:
{ { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت: 26].
والله لو لم يكونوا يعلمون حلاوة القرآن وأخْذه لمن سمعه واستيلاءه على الأسماع والقلوب، ولولا خوفهم من أنْ يأخذ القرآنُ منهم سيادتهم لما قالوا هذا الكلام، ولما حذَّروا الناس من سماعهم، ولو كان كلاماً عادياً ما وقفوا منه هذا الموقف. إذن: فهموا أن القرآن حَقٌّ، ومَنْ سمعه لا بدَّ أنْ يهتدي به. ومعنى سمعه يعني: بمواجيده.
سمعنا كثيراً قصة إسلام سيدنا عمر بن الخطاب، وكان جباراً في الجاهلية عنيداً غليظ القلب، فماذا حدث له بعد سماع القرآن؟ لقد سمعه أولاً من أخته فغضب ولطمها على وجهها، فسال الدم من وجهها، وعندها تحركت عاطفته نحو أخته، فلما تحركت عاطفته غطتْ على لدد الخصومة عنده للإسلام، ولما غطَّت على لدد الخصومة للإسلام وصل القرآن إلى قلبه بدون لدادة فأثَّر فيه فآمن.
وقد صوَّر لنا القرآنُ في موضع آخر نموذجاً لاستهزاء أهل الباطل بأهل الحق، قال تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [المطففين: 29-33].
ثم يذكر الحق سبحانه عاقبة هذا الاستهزاء، واللقطة الأخيرة في هذا الموقف
{ { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } [المطففين: 34-35] ثم يسألنا ربنا { { هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المطففين: 36] يعني: هل قدرنا أنْ نجازيهم بما يستحقون؟