التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
٢٦
-فصلت

خواطر محمد متولي الشعراوي

تميَّز العربُ قديماً بمَلَكة عربية تتذوَّق اللغة وتجيد أساليبها وفنونها، بدليل أنهم جعلوا للكلمة مؤتمرات وأسواقاً، ففي حين كانت البلاد الأخرى تقيم المعارض والأسواق لترويج بضاعتهم، لم يكُنْ عند العرب بضاعة غير الكلام والفصاحة، فجعلوا لها سوقاً ينشد فيها أجود أشعارهم ثم يختارون أفضله، ويُعلقونه على أستار الكعبة، وهو أشرف مكان على الأرض، وهذا أمر لم يحدث في أي أمة أخرى.
لذلك اختار الحق سبحانه أمة العرب لتتلقى منهجه، وتبلغ دعوته سبحانه إلى خَلْقه ونزل عليها القرآن لأنها الأمة الوحيدة التي ستفهم لغته وتتذوقها.
إذن: جاء القرآن على أمة لها نبوغٌ في اللغة والبيان لتكون مجالاً للتحدي، وحين تعجز أمام تحدِّي القرآن فعَجْز غيرها من باب أَوْلَى، وأيضاً فلم يجعل الله لهم تقدُّماً في شيء غير تقدمهم اللغوي والبياني؛ لأن مفتاح الدين ومعجزة الرسالة ستكون هي القرآن.
ولو كانت هذه الأمة أمةَ تقدُّم وحضارة في أيِّ مجال من المجالات غير اللغة لقالوا عن الإسلام ثورة حضارية، لا ليست أمة حضارية بل أمة أمية ورسولها أيضاً أُمِّي.
ومن هنا كانت الأمية ميْزةً وشرفاً لرسول الله، لكنها ليستْ شرفاً فينا نحن لأنَّ أمية رسول الله تعني أنه لم تدخل عليه معلومة من البشر، وإنما كلّ معلوماته من الله، فمَنْ إذن ربَّاهُ، ومَنْ أدَّبه، ومَنْ علّمه؟ الله.
فإذا كانت الأمة أُميّة، ورسولها أمياً، فهذا دليلٌ على أن كلَّ منافذ الخير في هذه الأمة ليستْ من عند البشر.
وأيضاً تميزتْ هذه الأمة بأنها أمة ليس لها وطن، فالعربي موطنه خيمته يضعها حيث وُجد الماء والعشب ويحملها على بعيره إلى أيِّ مكان آخر حين يجفّ الماء أو ينتهي الكلأ، ليس له وطن ولا بناء يعزّ عليه أن يفارقه، فبيته على ظهر جمله، لذلك قال تعالى:
{ { مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ .. } [النحل 80].
شيء آخر، وهو الأهمّ أن العرب كانوا دائماً في محلِّ قتال، وتظل الحربُ دائرةً بين القبائل إلى أربعين سنة، هذه الحروب جعلتهم كلهم أهل خبرة في فنون الحروب والقتال؛ لذلك ساعة احتاج رسولُ الله إلى جنود لنشر دعوته لم يُدرِّب أحداً على القتال، إنما وجد جنوداً جاهزين على أُهْبة الاستعداد للقتال، لذلك لم يكُنْ هناك مدارس حربية ولا معسكرات للتدريب.
فإذا أخذنا في الاعتبار أن العربي لم يكُنْ له وطن يرتبط به، وأنه ذو قدرة وكفاءة في فنون القتال، علماً أنه من السهل تكوين الجيش، ومن السهل إرسال جماعة هنا وجماعة هناك يحملون راية الإسلام، وقد أرسلهم رسول الله بالفعل إلى فارس وإلى الروم وإلى الحبشة .. إلخ فسَهُلَ ذلك عليهم.
لذلك لم يكُنْ لرسول الله جيشٌ مُعَدٌّ وموقوف للقتال، لأنه ليس في حاجة إلى هذا الجيش، فإنْ أراد القتال نادى فقط (حيَّ على الجهاد) فيجتمع عليه الصحابة خاصة الشباب منهم يتسابقون إلى الخروج مع رسول الله، لدرجة أن رسول الله كان يختار منهم فيقول: هذا يخرج وهذا لا يخرج، فكان الذي لا يقع عليه اختيار رسول الله يغضب وربما بكى لأنه لم يخرج للجهاد مع رسول الله.
إذن: تميَّزَتْ هذه الأمة بعدة خصال أهَّلتْهَا لأنْ تكون محلاً لمنهج الله وتبليغ رسالته، أولاً: كانت أمة بلاغة وفصاحة. ثانياً: كانت أمة ترحال لا توطن لهم. الثالث: أنهم كانوا على دراية بفنون الحرب والقتال ولم يحتاجوا إلى تدريب في معسكرات، بل كانوا على استعداد تام، كلما سمعوا هَيْعة طاروا إليها، وبذلك كانوا بطبيعتهم مُعدَّين لحَمْل هذه المهمة.
قوله تعالى حكاية عن كفار قريش: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ .. } [فصلت: 26] جاء نتيجة تمكُّن العربي من اللغة، وتذوّقه لها، وفَهْمه لمعانيها، فلو تركوا القوم يستمعون لمحمد وهو يقرأ القرآن لا بدَّ أنْ يتأثروا به، ولا بدَّ أنْ يميلوا وينجذبوا إليه، فما الحل؟
الحل عندهم { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ .. } [فصلت: 26] لأنهم علموا علمَ اليقين أنهم لو سمعوا لأخذهم القرآن بجمال أسلوبه، وجلال معانيه، وقوة أدائه، ولو كانوا يعلمون خلافَ ذلك ما نَهَوْا قومهم عن سماعه.
ولم يقف الأمر عند النهي عن السماع، بل وشوَّشوا عليه حين يقرأ { وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت: 26] إذن وسيلة الغلبة ألاَّ تسمعوا للقرآن، وأنْ تُشوِّشوا عليه حين يقرأ حتى لا تُعْطوا فرصة لمَنْ يسمع أن يتدبر وقولهم { لَعَلَّكُمْ .. } [فصلت: 26] يعني: احتمال تكُون لكم الغلبة، إنْ فعلتم ذلك فهو أمر غير مؤكد عندهم.
والدليل على ذلك على أنهم آمنوا ببلاغة القرآن وإعجاز القرآن، وآخر المطاف لما ضاقتْ بهم الحِيَل قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه مجنون وردَّ الله عليهم، فقال لرسوله:
{ { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4] وهل للمجنون خلق، وخلق عظيم؟
قالوا ذلك وهم يعلمون صدق رسول الله وأمانته وحُسْن سيرته فيهم، فقالوا: ساحر والرد على هذا سهل، فلو أن محمداً سحر مَنْ آمن به، فلماذا لم يَسْحركم كما سحرهم، وتنتهي المسـألة؟ وقال: شاعر وكذبوا أيضاً، لأنهم أمة كلام وبيانٍ، ويعلمون جيداً ما الشعر، وما جرَّبوا على محمد شيئاً من هذا.
وفي نهاية الأمر اعترفوا بصدق القرآن وبلاغته وإعجازه، لكن اعترضوا على أنْ ينزل على محمد بالذات، فقالوا:
{ { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
فالآفة ليستْ في القرآن، فالقرآن لا غبار عليه، الآفة في نزوله على محمد وهو فقير من عامة القوم، ليس سيِّداً من ساداتهم من عتبة وشيبة وغيرهما، وبذلك أقروا وشهدوا للقرآن بأنه كتاب كامل يستوعب كلَّ وجوه الخير وكمالات الخلْق اللازمة لصلاح الدنيا والآخرة، فاعتراضهم إذن على شخص رسول الله لا على القرآن.
لكنهم لم ينتبهوا إلى أنَّ شهادتهم للقرآن وإقرارهم بإعجازه أَوْلى عند رسول الله من شهادتكم له هو؛ لأن الذين آمنوا بالله وآمنوا بوحي الله كانوا أقربَ لرسول الله ممَّنْ أنكروه.
فالرومان لم يُصدِّقوا محمداً، لكنهم يؤمنون بكتاب ويؤمنون بوحي وبرسل، وفارس لم يكُنْ عندها هذا الإيمان الذين عند الرومان، فكانت قلوبُ رسول الله والمؤمنين تميل إلى الرومان، لأنهم أهلُ كتاب ويؤمنون بالله؛ لأن عصبية رسول الله لربه فوق عصبيته لنفسه، ألاَ ترى أن المسلمين حزنوا لما غُلِبَتْ الروم وفرحوا لما انتصروا بعد ذلك؟