التفاسير

< >
عرض

كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٣
-فصلت

خواطر محمد متولي الشعراوي

سماه { كِتَابٌ .. } [فصلت: 3] لأن الكتاب تعني الجمع. والكتيبة جمع الجنود، فالكتاب تجمع الكلمات إلى بعضها، والكتاب يعني: مجتمع فيه أشياء، وفي القرآن اجتمع كل خير في الدنيا والآخرة، وهو كتاب لأنه مكتوب ومُسجَّل تستطيع أن تقرأه.
ولذلك لما أرادوا جمع القرآن وضع الجامعُ مبدأ، وهو ألاَّ يكتب آية إلا إذا وجدها مكتوبة بالفعل على الرِّقاع أو العظام أو غيره، مما كانوا يكتبون عليه، ثم يشهد على صحتها اثنان من القراء، فهو كتاب لأنه مكتوب في السطور، وقرآن لأنه مقروء محفوظ في الصدور.
الحق سبحانه وتعالى أراد بذلك كما قال الشيخ المرحوم محمد عبد الله دراز: أنْ تُذكِّر إحداهما الأخرى، فالمكتوب من المقروء يتعاونان في تسجيل كتاب الله تسجيلاً دقيقاً لا يتطرق إليه الشك.
والدليل على ذلك أن جامع القرآن وجد آية مكتوبة، وطلب لها شاهدين فلم يجد إلا واحداً يشهد على صحتها فتوقف عن كتابتها، وكان هذا الشاهد هو سيدنا حذيفة رضي الله عنه، وجاء للكاتب مَنْ ذكَّره بحديث سيدنا رسول الله في شأن خزيمة حين قال:
"من شهد له خزيمة فحَسْبه" فجعل شهادة خزيمة بشهادتين، وأخذ عنه الآية وكتبها.
ولها قصة: قالوا
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد استدان مالاً من يهودي، وأدَّاه لَهُ دون شاهد بينهما، ثم جاء اليهودي مرة أخرى يطالب رسول الله بالسداد فقال له رسول الله: لقد أديتك. قال: لا، قال أدَّيْتُك، قال: إذن ابغني شاهداً، فقام أحدُ الصحابة وقال: أنا يا رسول الله شهدتُ ذلك، عندها سكن اليهودي لأنه كاذب.
وبعد نهاية الموقف استدعى رسول الله الصحابي وقال له: كيف شهدتَ بذلك ولم يكُنْ معنا أحد؟ فقال له: يا رسول الله، كيف أُصدقك في خبر السماء وأُكذِّبك في كذا درهم ..
نعم: نقول هنا نِعْمَ الاستنباط، لذلك استحق هذه المكانة من رسول الله من شهد له خزيمة فَحَسْبُه"
.
ومعنى { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ .. } [فصلت: 3] يقولون في الفعل (فُصِّلت) مبني للمجهول أو لما لم يُسَمَّ فاعله، والمعنى هنا أن الله فصَّلها أولاً ففُصِّلت أي: صارتْ مُفصَّلة، فلما بلَّغها رسول الله للناس أصبحت هي مُفصَّلة لأمورهم ولأحكامهم.
ومعنى { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ .. } [فصلت: 3] لأن القرآن مُقسَّم ومُفصَّل إلى سور، كل سورة قائمة بذاتها، وداخل السُّور آيات، كل آية بذاتها، ففي السُّوَر الطويل والقصير، كذلك في الآيات تجد كلمة واحدة آية، وتجد آية من عدة أسطر، كذلك فصَّل الكلمات من حيث مادتها، كذلك فصَّل الحلال والحرام، وفصَّل الطاعة والمعصية، ألم يفصل بين الوعد والوعيد، بين الثواب والعقاب.
لقد فَصَل القرآن بين كل هذه المسائل، أو فُصلت فيه كل آيات الكون إلى قيام الساعة، لذلك قالوا:
"خطبنا رسول الله خطبة بليغة، ما ترك فيها شيئاً، وما ترك من ورقة تسقط إلا حدَّثنا عنها إلى أنْ تقوم الساعة، حفظها مَنْ حفظها ونسيها مَنْ نسيها" .
نعم كما قال تعالى: { { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ .. } [الأنعام: 38] يعني: أن الأمور التي تحدث في الكون موجودة عندكم في هذا الكتاب.
ولذلك لما سُئلنا في إحدى رحلاتنا إلى أوربا من أحد المستشرقين قال: عندكم في القرآن:
{ { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ .. } [الصف: 9].
وفيه:
{ { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } [الصف: 8].
ومع ذلك وبعد مرور أربعة عشر قرناً على ظهور الإسلام، ما يزال اليهود والنصارى والملاحدة والمشركون موجودين، ولم يظهر عليهم الإسلام، فكان الرد الذي وفقنا الله إليه أن الإسلام ظهر بالفعل عليهم رغم وجودهم، والمراد بالظهور هنا ظهور الحجة، فالإسلام ظهر على هؤلاء بالحجة من أعدائهم.
وفرْق بين أن تظهر الحجة من مُعتقده، وبين أن تظهر الحجة من معاند، كيف؟ قالوا: ستظهر في الكون أقضية من صُنْع البشر لا يجدون لها حلاً، إلا أن يرجعوا إلى حكم القرآن.
إذن: ظهر القرآن عليهم وعلى أفكارهم وعلى أحكامهم وعلى حضارتهم، وإلا لما رجعوا إليه.
ومثَّلنا لذلك بقضية الطلاق في الإسلام، وهي من أهم القضايا التي عارضوها وانتقدوها، وبعد ذلك اضطرَّ الفاتيكان نفسه إلى إباحة الطلاق عندهم، وهذا هو ظهور الإسلام، لا بأنْ يكونوا مسلمين، إنما بأنْ تظهر حجته ويشهد له منهم مَنْ لم يؤمن به.
وقوله: { قُرْآناً عَرَبِيّاً .. } [فصلت: 3] أي: بلسان عربي وفي أمة عربية، لكن كيف ذلك وهو رسالة عالمية لكل البشر ولكل اللغات؟ ولماذا لم ينزل بكل اللغات؟ قالوا: إذن لم يكُنْ هناك لغة (اسبرانتو) فالقرآن نزل على محمد في بيئته العربية، لأن الله تعالى يريد أن يظهر هذا الدين في أمة أمية، وعلى لسان رسول أميٍّ حتى لا يقول أحد: إن القرآن وثبة حضارية.
فالعرب كانوا أمة لا دولةَ لها تحكمها ولا نظام ولا قانون، كانوا مجموعة من القبائل كل قبيلة لها قانونها، كل واحد منهم (شوكته من ظهره) ومع ذلك تأتي مثل هذه الأمة وتوحد العالم كله بما فيه من دول متحضرة من فارس في الشرق إلى الروم في الغرب.
فمن أين أتت هذه الأمة بذلك؟ كان عليهم أنْ يفهموا أنه قانونُ السماء جاء من أعلى، وإلا ما كان العرب ليقوموا بهذا الدور لولا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
إذن: لا مجالَ لأنْ نقول عن الإسلام إنه وثبة حضارية، لذلك لما أراد الحق سبحانه إعلاءَ دينه جعل محمداً صلى الله عليه وسلم يجهر بهذا الدين في مكة، لماذا مكة بالذات؟ لأن فيها قريشاً وهي موضع السيادة في الجزيرة كلها، وفيها الصناديد الذين لا يجرؤ أحد على مواجهتهم.
فبين هؤلاء صاح محمد بالإسلام وجهر به، ومع ذلك لم ينصر الدين هؤلاء السادة، إنما نصره المستضعفون والعبيد في المدينة، وقلنا: إن لهذه المسألة حكمة، هي ألاَّ يظهر أحد أن العصبية لمحمد هي التي خلقتْ الإيمان بمحمد، ولكن الإيمان بمحمد هو الذي أوجد العصبية لمحمد.
فالقرآن عربي لأنهم أمة الدعوة الذين سيحملون لواءها ويسيحون بها في أنحاء العالم كله، فالعرب أمة تقوم على الترحال ليس لهم بيوت، ولا يسكنون الفيلات والعمارات، إنما هي الخيمة يحملها معه أينما سار، فوطنه إذن العالم كله وبيته على ظهر جمله، كما أنها قبلية يتعصب كُلٌّ لقبيلته، لذلك كثرت بينهم الحروب حتى أن بعضها استمر أربعين سنة.
هذه الحروب درَّبتهم على القتال، وزرعت فيهم الشجاعة والتضحية بالنفس في سبيل المبدأ، لذلك لما أراد رسول الله أنْ يُعدَّ جيشاً لم يفتح له مدرسة حربية، إنما وجد جيلاً من الرجال جاهزاً مُعداً يعلم كل فنون الحرب، كلما سمع أحدهم هيعة طار إليها.
هؤلاء هم الرجال الذين سيتلقوْنَ الدعوة من رسول الله، هم الذين سينشرونها. إذن: لا بُدَّ أنْ يكون الكلامُ بلسانهم، والدعوة بلغتهم، ليستطيعوا حملها.
لذلك قال تعالى في موضع آخر:
{ { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ .. } [إبراهيم: 4] نعم لأنهم هم الذين سيسمعون منه أولاً.
لكن كيف تكون عالمية الدين؟ قالوا: حين يسمع منه قومه يؤمنون به، ثم يحملون دعوته إلى الناس لا ألفاظاً، لكن يحملونها منهجاً وسلوكاً وقدوةً، ومعلوم أن المناهج لا تختلف فيها اللغات، لذلك غزا المسلمون العالم كله، ليس بالقرآن وآياته إنما بالسلوك وبالمبادئ التي أرساها القرآن.
إذن: نزل القرآن بلسان عربي، لأن العرب هم المعَدُّون لهذه المهمة، القادرون على حملها، والسياحة بها في العالم كله لكونهم أمة بدوية غير متوطنة، وأمة قتال، وهي أمة أمية لا يمكن أن نتهمها باختلاق هذا الدين، أو أنه وثبة حضارية.
وقوله: { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [فصلت: 3] أي: يعلمون أساليب العربية، بل ويُجوِّدون فيها، فهم أعلى قمة الفصاحة والبلاغة، بدليل أنك لن تجد أمة في الأرض صنعتْ معارض للأدب وللكلمة كما صنع العرب في عكاظ والمربد وذي المجاز والمجنة، ففيها كانوا يعرضون إنتاجهم الأدبي ويُقيِّمونه، وما استحسنوه منه يكرمونه بأن يضعوه على أستار الكعبة.
إذن: { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [فصلت: 3] العربية وينبغون فيها نبوغاً، بحيث نزل القرآن المعجز بلسانهم. والإعجاز لا يتأتى لمن لا يجيد مجال الإعجاز، فالذي يجهل شيئاً لا يصح أنْ تقول له: أتحداك في هذا الشيء، إنما يكون الإعجاز للمُجيد في الشيء المتحدَّى به، لأن الجاهل له أن يقول لك: والله لو كنت أعلم الشيء الفلاني لغلبتك فيه. ومن هنا تحدى الله العرب بالقرآن.
ولذلك الحق سبحانه وتعالى لا يُنزل آية مع رسول من رسُله لإثبات صدقه في الدعوة إلا من جنس ما نبغ فيه القوم، فكانت معجزة سيدنا عيسى في الطب، فكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وسيدنا موسى عليه السلام كانت معجزته العصا، لأن قومه نبغوا في السحر، وجاءت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم في البلاغة والبيان، فتحدَّى القوم بالقرآن، وبذلك يتأتَّى الإعجاز.
لذلك نسمع مَنْ يقول: إن العرب انهزموا أمام القرآن، وهذا غير صحيح، لأن العرب لم ينهزموا بل انتصروا أمام القرآن، كيف؟ لأن الله تعالى لا يتحدى إلا قوياً، فتحدَّى الله لهم دليلٌ على أنهم قوة، لديهم القدرة على البيان ويمتلكون ناصية اللغة.