التفاسير

< >
عرض

نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
٣١
-فصلت

خواطر محمد متولي الشعراوي

يعني: أنصاركم المقربين منكم والمؤيدين لكم في الدنيا وفي الآخرة، قالوا: لأن الملائكة جُبِلَتْ على الطاعة؛ لذلك عند خَلْق آدم قالوا: { { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة: 30] ردَّ الله عليهم { { قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30].
يعني: خلقتُ الملائكة مجبولين على الطاعة
{ { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6] والذي أريده طائعاً لا يملك أنْ يعصي، لكني أريد خَلْقاً آخر لا يأتُون إليِّ بالإكراه، إنما يأتونني طواعيةً ويُقبلون عليَّ محبة وهم يملكون أنْ يعصوا، يأتون أليَّ بالاختيار لا بالقهر والإجبار.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً قلنا: هَبْ أنَّ لك عبدين تربط أحدهما وتشدُّه إليك بسلسلة، والآخر حر طليق، وتنادي عليهما فيسرعان إليك. أيهما يكون أطوعَ لك من الآخر؟
فقوله: { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ } [فصلت: 31] يعني: نأتيكم في الشدة فننصركم، وفي البلاء فنصبِّركم.
لذلك ورد في الحديث الشريف أن واحداً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يقرأ القرآن وبجواره خَيْلٌ فسمع لها صياحاً وهمهمة، ورأى منها حركة غريبة، ورأى فوق رأسه نوراً، فذهب إلى سيدنا رسول الله وحكى له ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هؤلاء هم الملائكة، جاءوا لسماع الذكر، والله لو صبرتَ لصافحوك" .
هذا من ولاية الملائكة لنا في الدنيا، أنا في الآخرة فهم أولياء لأنهم سيكونون مندوبين عن الله في البعث وفي الحساب، وفي استقبال أهل الجنة بالسلام كما حكى الحق سبحانه: { { سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 73].
وقال:
{ { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } [الرعد: 24] هذا سلام الملائكة، ثم يُسلِّم الله عليهم كذلك، كما في سورة (يس): { { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 58].
{ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } [فصلت: 31] قالوا: ما تطلبه النفس من النعيم تجده أمامك بمجرد أن يخطر على بالك، فأيُّ رفاهية هذه؟ لقد ذهبنا إلى دول كثيرة ودخلنا أكبر الفنادق هناك، فكان قصارى ما وصلوا إليه أنك تضغط على زر معين يعطيك قهوة مثلاً، وعلى زر آخر يعطيك شاياً، فهل هناك أعظم مما أعدَّه الله لك في الجنة؟ مجرد أنْ يخطر ببالك الشيء تجده بين يديك، ثم إن فيها من النعيم "ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر".
لذلك لما أراد سبحانه أن يُصوِّر لنا الجنة لم يصفها صراحة، إنما قال سبحانه:
{ { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [محمد: 15] مثلها، ليستْ هي، لماذا؟ قالوا: لأن ألفاظ اللغة توضع لمَعانٍ ومُسمَّيات، ولا بُدَّ أنْ يُوجد المعنى أولاً ثم نضع له اللفظ الدالَّ عليه، فالمعدوم ليس له لفظ يدل عليه، (فالتليفزيون) مثلاً قبل أنْ يخترعوه ماذا كان اسمه؟ لم يكُنْ له اسم، كان معدوماً.
كذلك نعيم الجنة لا توجد في اللغة ألفاظ تدل عليه الآن، لأننا لا نعرفه ولا نعرف أسماء هذه الأشياء، فهي أشياء لم تَرَها عينٌ، ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على قلب بشر، فمن أين الألفاظ الدَّالة عليها؟
وقوله: { وَلَكُمْ فِيهَا } [فصلت: 31] أي: في الجنة { مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ } [فصلت: 31] المراد النفوس الإيمانية التي استقامت على طريق الله، فليس في الجنة محرَّم، وليس في الجنة مَنْ يشتهي المحرَّمات، فالنفس تشتهي الحلال، حتى محرَّمات الدنيا إنْ وُجدت في الآخرة فهي شيء آخر نُزِع منه سببُ التحريم.
فالخمر في الدنيا معروف أنها تُذهب العقلَ، وأنه لا لذةَ في شربها، أمَّا خمر الآخرة فقال الله عنها:
{ { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } [محمد: 15.]
وأنت تشاهد في (الأفلام) مثلاً مَنْ يشرب الخمر كيف يشربها؟ يصبُّها في فمه هكذا مرة واحدة، لماذا؟ لأن طعمها كريه يريد أنْ يُمرره من منطقة الذوق بسرعة، أما الذي يشرب كوباً من عصير المانجو مثلاً تراه يرشفه رشفةً رشفةً نقول (يمزمز) فيها، لأن طعمها لذة ورائحتها لذة.
كذلك في كل نعيم الجنة الذي له مثيل في الدنيا تجد الحق سبحانه يُنقِّيه من الشوائب ويُخلِّصه من الأضرار التي نعرفها في الدنيا، تأمل قوله تعالى عن ماء الآخرة:
{ { أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ } [محمد: 15] يعني: لا يتغير ولا يصيبه عَطَن كماء الدنيا، وفي اللبن قال: { { وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } [محمد: 15] وقال عن العسل: { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [محمد: 15].
إذن: لا تقُلْ: خمر كخمر الدنيا، ولا ماء كماء الدنيا، ولا لبن كاللبن الذي تشربه، لا إنما هي نعيم من نوع آخر نقّاه الخالق سبحانه، وصفّاه من شوائبه.
{ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } [فصلت: 31] يعني: لكم في الجنة كل ما تتمنونه، وكل ما تطلبونه.