التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
٣٤
-فصلت

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أنْ حدَّثنا الحق سبحانه عن مهمة الدعوة إلى الله، وأنها ميراث الأنبياء وتركة رسول الله لنا من بعده، يُعلِّمنا هنا فناً من فنون الدعوة ودرساً من دروسها، ألاَ وهو مقابلة السيئة بالحسنة { وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ .. } [فصلت: 34].
نعم لا أحدَ يُسوِّي بين الحسنة والسيئة والعقل يؤيد ذلك، تعالَ إلى اللص الذي يسرق أموال الناس، ويسرق ثمرة عرقهم وقُلْ له: أتحب أنْ يسرق الناسُ منك؟ يقول: لا، نقول: إذن لا تحب لهم ما لا تحبه لنفسك، يقول لك: أنت تقيد حريتي وأنا حُرٌّ.
نقول له: لا تنسَ أن الله قيَّد حريتك في سرقة الآخرين وأنت فرد واحد، وقيَّد حركة الدنيا كلها في أنْ تسرق منك، فمَنِ المستفيد؟ كذلك في أمور الشرع التي حرَّم الله فيها أنْ تعتدي على الآخرين حرَّم عليهم جميعاً الاعتداء عليك، قال لك: لا تنظر إلى ما حرَّم الله عليك بشهوة. وأمر الناس جميعاً أن لا ينظروا إلى محارمك.
والنبي صلى الله عليه وسلم يعطينا نموذجاً في حكمة الدعوة،
"حين جاءه شاب صادقُ الإيمان، لكن عنده أمر ومسألة لا يستطيع الإقلاع عنها، وهي شهوة النظر وشهوة الميل إلى النساء، فجاء وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إئذن لي بالزنا.
وتأمل هنا حكمته صلى الله عليه وسلم، قال للشاب دون أنْ ينهره أو يقسو عليه، إنما تبسَّم في وجهه وطمأنه أنه أمام داء له دواء، طالما أنه صادق الإيمان يواجه النبيَّ بدائه، لم يغُشّ رسول الله ولم يغُشّ نفسه.
لذلك وصف له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدواء الذي اجتثَّ هذا الداء من جذوره، وقام الشاب من عند رسول الله وأشدَّ ما يكرهه الزنا.
قال له رسول الله: يا هذا أتحب ذلك لأمك؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أتحبُّ ذلك لأختك؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أتحبُّ ذلك لزوجتك؟ قال: لا يا رسول الله، قال: أتحبُّ ذلك لابنتك؟ قال: لا يا رسول الله ...
وما زال الرسول يذكر له النساء من أهله حتى ذكر العمة والخالة، وحتى قال الشاب: لا يا رسول الله جُعلْتُ فداكَ، فقال رسول الله: كذلك الناسُ يا أخا العرب لا يحبونه لأمهاتهم ولا لأخواتهم ...."
.
عندها قال الشاب: والله ما هممتُ بشيء أنظر إليه إلا تذكرتُ أمي وأختي وزوجتي وابنتي.
إذن: الدين يحتاج في الدعوة إليه إلى لِينٍ وحكمة وموعظة حسنة حتى يُقبل منك ما تقول، لأن الذي تنصحه بأمر من أمور الدين وهو على غير دينك، أو على دينك لكنه ألِفَ المعصية وثقُلَتْ عليه الطاعة، ينبغي عليك أنْ تُخرجه مما ألفَ بأسلوب لا يكرهه، حتى لا تجمع عليه المعاناة حين تخلعه مما يحب، وقسوة الأسلوب وفظاظته، يكفي أن تُخرجه مما أحب بما لا يكره، وبذلك تمنع عنه شراسة الجدل وثورة العناد والمكابرة.
وكذلك في المعاملة، عليك أنْ تواجه السيئة بالحسنة { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .. } [فصلت: 34] يعني: رُدّ باللين وبالحسنى { فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت: 34] العداوة المدمرة هي التي تكون بين اثنين عدوين، كل منهما عدو للآخر، وفي هذه الحالة يستشري العداء ويستحكم، ولا نصل فيه إلى حَلٍّ، فمتى تنكسر حِدَّة العداوة؟
تنكسر حِدَّتها حينما تكون من جانب واحد، جانب عدو وجانب متسامح لا يرد السيئة بالسيئة، إنما يعفو ويصفح، وفي هذه الحالة تهدأ نفسُ العدو، ولا يجد مجالاً لعداوته، وهذه أولى خطوات الإصلاح أنْ تأخذ عدوك في جانبك، لذلك يقولون: لا تكافئ مَنْ عصى الله فيك بأكثر من أنْ تطيع الله فيه.
وبهذه الطريقة ينقلب العدو إلى { وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت: 34] يعني: صديق قريب مُحب مخلص كيف؟ لا تقل كيف، بقدرة الله خالق هذه النفوس وهذه القلوب ومُقلِّبها.
جاء رجل يشكو قسوةَ أحد الأقارب، فقلنا له: يا شيخ اصبر عليه وقابله بالتي هي أحسن، وتودَّدْ إليه عَلَّ الله يصلح ما بينكما، بعدها جاء وقال: دفعتُ بالتي هي أحسن فلم يزدد إلا قسوةً وصار أشدَّ مما كان، قلت له: إذن راجع نفسك لأن كلام الله قضية مُسلّمة، وابحث عن السبب عندك، فلعلك ظننتَ أنك دفعتَ بالتي هي أحسن، والحقيقة أنك لم تدفع بالتي هي أحسن، أو أنك أردتَ أنْ تُجرِّب مع الله، والله تعالى لا يُجرَّب، التجربة مع الله شَكٌّ، فلو صدقتَ مع الله لصدَقَ الله معك.
وما أجمل قول الشاعر في هذا المعنى:

يا مَنْ تُضايقه الفِعَالُ مِنَ التي ومِنَ الذي ادفَعْ فَدَيتُكَ بالتي حَتَّى تَرَى فَإذَا الذِي