التفاسير

< >
عرض

وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
٣٥
-فصلت

خواطر محمد متولي الشعراوي

أي: هذه الخصلة وهذه المنزلة منزلة الدفع بالتي هي أحسن، هذه الخصلة لا ينالها ولا يتحلَّى بها إلا الذين صبروا على الأذى، ولا يصل إليها إلا ذو حظ عظيم. يعني: نصيب وافر من العطاء، لماذا؟ لأنه كبتَ نفسه وأمسكها عن الردِّ بالمثل، فلما كبتَ نفسه من أجل الله جعل اللهُ عاقبته خيراً، وأجزل له العطاء.
ونلحظ هنا على الأداء القرآني تكرار عبارة { وَمَا يُلَقَّاهَا .. } [فصلت: 35] فلم يقُلْ الحق سبحانه: وما يُلقاها إلا الذين صبروا وذو حظ عظيم .. قالوا: تكررت العبارة لأن التلقي مختلف، هذا تلقي صبر، وهذا تلقى جزاء. وكثيراً ما يقف المستشرقون وأهل البصر بالقرآن أمام مواطن التكرار في كتاب الله باحثين عن الحكمة منه، لأن كتاب الله محكم، ليس فيه حرف زيادة أو عبث.
ومن هذه المواطن وقفوا عند التكرار في قصة سيدنا يوسف لَمَّا قال لأبيه سيدنا يعقوب عليهما السلام:
{ { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف: 4] قالوا: ما فائدة تكرار الفعل (رأى) هنا؟ نقول: يعني ساعة رأى الشمس والقمر رآهم ساجدين، وهذا لا يتأتَّى إلا إذا رآهم أولاً غير ساجدين ثم رآهم يسجدون أمامه.
إذن: فالرؤيا الأولى رأى أحد عشر كوكباً ورأى الشمس والقمر في غير هيئة السجود، ثم رأى الشمس والقمر له ساجدين، وهذا المعنى لا يكون إلا بتكرار الفعل.
كذلك هنا { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ .. } [فصلت: 35] صبروا على الإيذاء، وصبروا على ضبط النفس، وصبروا على مغالبة الشيطان الذي يُوسوس لهم بالانتقام ويُزيِّن لهم الردَّ بالمثل. وكانت عاقبة الصبر الجزاء والحظ الوافر.
وينبغي ألاَّ نغفل دور الشيطان في هذه القضية، فمهمته أن يلهب نار العداوة بين الناس، وأن يشعل الفتن ليلهيهم بها عن مطلوبات الله فسوف يوسوس لك: لماذا تتسامح وقد أُسيء إليك، لماذا تقبل الذل؟ أهو أفضل منك؟
لأن إبليس منذ أُمِر بالسجود لآدم فأبَى، وكانت النتيجة أنْ صار ملعوناً مطروداً من رحمة الله منذ هذا الموقف، والعداء مُستحكم بينه وبين ذرية آدم، ولن يتركهم حتى يُوردهم نفس مورده.
لذلك أقسم:
{ { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص: 82-83] يعني: يا رب أنا لستُ متمرداً عليك إنما على ذرية آدم، فالذي تريده طائعاً لا يمكن لي أنْ أغويه، فليس لي سلطانٌ على المخلصين منهم.
ومن خيبة إبليس أنه أفشى سره، وأعلن عن وسائله في غواية بني آدم، ومعلوم أن الذي يصنع مكيدة أو مؤامرة يحتفظ لنفسه بالتفاصيل، أمَّا إبليس فأعلن عنها، فأعطانا الله الاحتياط.
قال تعالى حكايةً عن إبليس:
{ { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] أقعد لهم على الصراط. يعني: على طريق الاستقامة وفعل الخير لأشغلهم عنه وأفسده عليهم. ولذلك قلنا: إن الشيطان لا يذهب إلى الخمارة مثلاً، إنما يذهب إلى المسجد.
وفي موضع آخر قال:
{ { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ .. } [الأعراف: 17].