التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِيۤ آمِناً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٤٠
-فصلت

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله تعالى: { يُلْحِدُونَ .. } [فصلت: 40] أي: يميلون بآيات الله عن الحق والاستقامة إلى باطل يروْنَهُ هم حقاً، أو يحرِّفون الآيات تبعاً لأهوائهم؛ لأن آيات الله لها معانٍ، فهم يُلحدون فيها. يعني: يُخفونها ويُظهرون لها معانيَ أخرى باطلة، كما نلحد نحن الميت في باطن الأرض، بعد أنْ كان يسيرُ عليها، فالمعنى يُخْفُون حقائقها ليُرضُوا كفرهم وهواهم.
ومن الإلحاد في آيات الله ما وقع فيه البعض من التشبيه أو التمثيل في أسماء الله وصفاته، فحين يقفون عند صفة لله تعالى يُوجد مثلها في البشر يُشبِّهون، فالله له سمع ليس كسمعنا، وله يد ليست كأيدينا، وله بصر ليس كبصرنا، إذن: لا بدَّ أنْ نأخذ هذه الصفات في إطار عام للآيات الكلية
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. } [الشورى: 11].
ومنه قولهم عن المعجزة سِحْر في قصة سيدنا موسى - عليه السلام - مع فرعون وفَرْق بين السحر والمعجزة، المعجزة حقيقة والسحر تخييل بعيد عن الحقيقة، صحيح أن معجزة موسى عليه السلام كانت من جنس السحر لأنه المجال الذي نبغ فيه قومه لكنها لم تكُنْ سحراً.
فالحبال التي رماها سحرة فرعون رآها موسى ثعابينَ تسعى، أما السَّحَرة أنفسهم فيروْنَها حبالاً، فالسحر يُخيل لك الشيء أنه غيره مع أنه ليس كذلك في الحقيقة إنه مجرد خيال، لذلك قال تعالى:
{ { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } [طه: 66] تخييل لا حقيقة.
لكن لما ألقى موسى عصاه، ماذا حدث؟ تحولتْ إلى حية حقيقية، بدليل قوله تعالى:
{ { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ } [طه: 67] ولا يمكن أنْ يخاف موسى من عصاه وهي عصاً لا بدّ أنها انقلبتْ إلى حية بالفعل وهو يراها كذلك، وبدليل أيضاً أن سحرة فرعون وكانوا كثرة، ولهم تمرُّس بأساليب السحر ويستطيعون التمييز بين السحر والحقيقة، رأيناهم يرفعون راية التسليم لموسى ويؤمنون معه، لماذا؟
لأنهم رأوا معجزة هم أخْبَرُ الناس بها، وأنها ليست سِحْراً من جنس سحرهم، ولا تخييل كما يفعلون هم، ولو كان فعْل موسى تخييلاً ما قال الله له:
{ { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلأُولَىٰ } [طه: 21].
وكما قالوا في موسى - عليه السلام - أنه ساحر قالوها في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والردّ عليها كما أوضحنا بسيط، نقول لهم: لو كان محمد ساحراً سحر مَنْ آمن به، فلماذا لم يسحركم أنتم وتنتهي المسألة؟
ومن إلحادهم في آيات الله قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مجنون مع أنهم ما جرَّبوا عليه شيئاً من ذلك، وعُرِف بينهم بالصادق الأمين، واتصف فيهم بكريم الأخلاق، وصاحب الخلق لا يكون أبداً مجنوناً، وقد ردّ الله عليهم
{ { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } [القلم: 2].
ومن إلحادهم في القرآن أنهم قالوا عنه إنه شعر، وعجيبٌ منهم ذلك لأنهم أعرفُ الناس بأساليب الشعراء وتعبيرات الشعراء، هم يعرفون أن القرآن مُعْجز، وأنه من عند الله، وأن أسلوبه لا يُضاهَى، وأنه فريدٌ من نوعه ومع ذلك يكذبون، وهذا هو الإلحاد.
ومعلوم أنَّ من عظمة القرآن الكريم أنه ليس له أسلوبٌ يُحتَذى، وأن له مذاقاً خاصاً، وتقرأ الحديث النبوي تجد له مذاقاً آخر، وتقرأ الحديث القدسي تجد له مذاقاً آخر، فمَنْ يجمع كلّ هذه الأساليب بهذا التميز، وكل منها يفيض عليك بفيض غير الآخر، وقد ردّ الله عليهم هذا الإلحاد فقال:
{ { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } [الحاقة: 41].
ومن إلحادهم أنْ يُغيروا في الأشياء المطلوبة منهم، وأنْ يُحرِّفوا الكلمات، يقول تعالى:
{ { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ .. } [النساء: 46].
فكانوا يقولون (راعنا) يلوون بها ألسنتهم يعني: من الرعونة، لذلك نهى الله المؤمنين أن يقولوها، فقال سبحانه في سورة البقرة:
{ { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة: 104].
ومن ذلك إلحادهم في السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدلَ أنْ يقولوا: السلام عليكم قالوا: السام عليكم.
إذن: فوُجُوه إلحادهم في آيات الله كثيرة، وقد أخبر اللهُ عنهم أنهم نَسُوا حظاً مما ذُكِّروا به، والذي لم ينسوه حرَّفوه، والذي لم يُحرِّفوه كتموه، وليْتهم وقفوا عند هذا الحد، بل وصلتْ جُرأتهم على الله أن يكتبوا الكتاب بأيديهم ويقولون: هذا من عند الله، وما هو من عند الله، وهذا كله ألوان مختلفة لإلحادهم.
لذلك الحق سبحانه يخبر هنا: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ .. } [فصلت: 40] نعم لا يخفوْنَ عن علم الله، فعدم الخفاء شيء لازم، لكن المراد أنْ نخبرهم بجريمتهم حتى نعاقبهم عليها، لأن الجريمة شيء والعقوبة عليها شيء آخر، فالحق يُعرِّفهم بجريمتهم حتى يكون للعقوبة موضعٌ، كما يقول أهل القانون: لا تجريمَ إلا بنصٍّ. فكأن الحق سبحانه لا يأخذهم على غِرَّة، ولا يتركهم في عَمَىً، إنما يُوضح لهم قبل أنْ يُؤاخذهم.
{ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِيۤ آمِناً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ .. } [فصلت: 40] هذا سؤال معلوم الإجابة عنه، والحق يسألنا وهو يعلم أن الجواب سيكون كما يريد سبحانه، فكأن الحق سبحانه يقول لنا من خلال هذا السؤال: احرصوا على أوامر الله نفِّذوها، وإياكم والنواهي فاجتنبوها، فهذا هو سبيل الأمن والنجاة من النار، وهل يستوي مَنْ يُلْقى في النار ومَنْ يأتي آمناً سالماً؟
وما دام أن هذا السؤال جاء بعد الكلام عن الإلحاد في آيات الله فيكون المعنى: الذين يلحدون في آيات الله لهم النار يُلْقَوْنَ فيها يوم القيامة، والذين لا يُلحدون في آيات الله يأتون آمنين.
ومن الغباء أن الإنسان يُلحد في آيات الله لينالَ بذلك سلطةً زمنية أو مكانة مؤقتة، مآلُها إلى زوال مُحقق، ثم يلاقي بعد ذلك مصيراً مؤلماً في نار خالدة لا نهايةَ لها.
تعالَ إلى أعظم الناس نعيماً في الحياة، أخذ منها الغِنَى والقوة والسلطان والمهابة والعز كله، واسأله هل يُنغِّص شيء هذه النعمة؟ سيقول لك: أخاف ألاَّ تدوم، نعم يُنغصها على أصحابها عدم دوامها، فإما أنْ تتركهم النعمة وهم أحياء يُرزقون، وإما أنْ يتركوها هم بالموت.
لذلك يخبرنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال هؤلاء المنعَّمين في الدنيا من أهل الكفر كيف هم في الآخرة؟ يقول الرسول:
"أن الواحد منهم يُغمس غمسةً واحدة في النار - والعياذ بالله - ثم تسأله الملائكة: هل رأيتَ في الدنيا نعيماً قط، يقول: لا والله ما رأيتُ فيها نعيماً قط!" .
فمَنْ إذن يترك نعمةً باقية خالدة لنعمة مُنغصة زائلة فانية، ثم أنت تتنعَّم في الدنيا على قدر إمكاناتك وقدراتك، وفي الآخرة تتنعم على قَدْر قدرة الله وكرمه وعطائه في جنة فيها ما لا عَيْنٌ رأيت، ولا أُذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر.
وما دُمنا أمام أمرين لا يستويان، ووجه الصواب فيهما واضح، وما دُمْنا قد بيَّنا لكم هذا البيان فأنتم أحرارٌ اختاروا لأنفسكم { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [فصلت: 40] والأمر هنا للتهديد وللتحذير، يعني: اعملوا ما شئتم فالله يراكم، والله مُطلع على أعمالكم، وقادر على أنْ يجازيكم عليها جزاءً وفاقاً.