التفاسير

< >
عرض

أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ
٥٤
-فصلت

خواطر محمد متولي الشعراوي

كلمة { أَلاَ } أداة استفتاح لكلام جديد، فالمتكلم يريد ألاَّ يفاجئ المخاطب فينبهه لكي ينتبه إليه ولا يفوته شيء من كلامه، وكأنه يقول له: استعد واسمع ما أقوله لك فهو كلام مهم.
والكلام المهم هو قوله تعالى: { إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ } [فصلت: 54] أي: الكفار في شكٍّ من البعث بعد الموت يظنون أن المسألة خلقهم الله في الدنيا وانتهتْ المسألة، فهم يشكُّون في أن هناك رجعة، ويرتابون في الحساب والجزاء، ولا يعملون حساباً لهذا اليوم، لماذا؟
لأنهم لم يعملوا مقدمة لهذا اللقاء لذلك يتغافلون عنه، يُمنَّى الواحد نفسه أن هذا الكلام كذب، وليس هناك بعْث ولا حستب ولا جزاء، ومَنْ يعترف منهم بهذا اللقاء يملؤه الغرور، فيقول
{ { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [فصلت: 50] وقال آخر: { { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 36].
إذن: فهم في (مِرْيةٍ) من هذا اليوم أي شك وارتياب وتردد، والمِرْية أيضاً من المراء، وهو الجدال بالباطل والعناد والمكابرة على قبول الحق والانصياع له؛ لذلك قالوا: الجدل هو النقاش الموصِّل إلى شيء بين طرفين، إلى نتيجة، أما المراء فهو جدل ينتصر فيه كل طرف لنفسه، ولا يعنيه الوصول إلى الحق.
والله تبارك وتعالى يُعلِّمنا كيفية الاختلاف، وكيفية النقاش، وأصول الجدل في قوله تعالى:
{ { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } [سبأ: 46] ما هي يا رب؟ { { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } [سبأ: 46] يعني: لا تبحثوا بحثاً جماعياً جماهيرياً، بل مَثْنَى وفرادى، لأن حكم الجماهير غير منضبط، فكل طرف فيه يريد أن ينتصر لرأيه، ولا يقبل أن يُهزَم أمام الجمع فيتمادى في الباطل.
وسبق أن قلنا: إن هتاف الجماهير تتوه فيه الأصوات وتختلط فلا تتميز، ومثَّلنا لذلك بقول شوقي في كليوباترا لما انهزمتْ في أكتيوم:

اسْمع الشَّعْبَ ديُون كيْفَ يُوحُونَ إليْه
مَلأَ الجوَّ هتَافاً بحيَاتيْ قَاتليْه
أَثَّر البُهتانُ فيه وَانطَلى الزُّور عليْه
يَالَهُ من بَبْغَاءَ عَقلُه فِي أُذُنيْه

والأمر المخزي هنا أنهم في مرية، لم يقل من الجنة وإنما { فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ } [فصلت: 54] فهذا هو الكسوف الكبير والخجل والخزي، كما قالوا: موقف يتساقط فيه لحم الوجه خجلاً من الحق سبحانه، وقد عادوا إليه هذا العَوْد المؤسف، وجدوا أنفسهم أمام الحق سبحانه وقد كفروا به في الدنيا وجحدوه وأنكروه، ثم تفاجئهم هذه الحقيقة { { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39].
والله لو قال في مرية من نعيم ربهم لكانت مقبولة، والناس تتفاوت مراتبهم ودرجاتهم في العمل الصالح، فمنهم مَنْ يعمل خوفاً من النار، ومنهم مَنْ يعمل طمعاً في الجنة، ومنهم مَنْ يعمل حباً في الله الذي كلَّفه وإرضاءً له سبحانه، لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، إنما يعمل لذات الله.
لذلك ورد أن السيدة رابعة العدوية قالت في مناجاتها لله تعالى: اللهم إنْ كنتَ تعلم أنِّي أعبدك طمعاً في جنتك فأحرمني منها، وإنْ كنتَ تعلم أنِّي أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني بها، إنما أحبك لأنكَ تستحق الحب، واقرأ قوله تعالى:
{ { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [الكهف: 110] والجنة أحد.
وقوله سبحانه: { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } [فصلت: 54] تقرير لحقيقة أخرى بدأت أيضاً بـ { أَلاَ } الاستفتاحية، والمعنى أنه سبحانه يحيط علمه بكل شيء إحاطة تامة لا يفلت أحدٌ منها، ولا يغيب عنها مثقالُ ذرة في السماوات ولا في الأرض، والمحيط هو الدائرة التي تلفُّ الشيء من كل جوانبه.