التفاسير

< >
عرض

وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
١٠
-الشورى

خواطر محمد متولي الشعراوي

الاختلاف هو عدم التقاء الآراء في قضية ما، وينقسم الجمع إلى فريقين أو أكثر، كُلٌّ يؤيد رأيه ويعارض رأي الآخر، ويقابله الوفاق والآراء تختلف إما في نقاش جاد مُثمر يُراد منه الوصول للحقيقة، وإما جدل ولجاجة لا فائدةَ منها ومِراءٌ بالباطل.
لذلك يُعلمنا الحق سبحانه ماذا نفعل حين نختلف، أنْ نردَّ الأمر والحكم لله، لذلك لما اختلفوا مثلاً في الروح وسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى:
{ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85].
كذلك علَّمنا الحق سبحانه أدبَ الخلاف وألاَّ نتعجل في الحكم، وأن نبحثه بموضوعية، فقد يكون المختلفون متفقين في واقع الأمر وهم لا يعلمون وجه هذا الاتفاق،
"ففي غزوة الأحزاب بعد أن عادت قريش إلى مكة، واليهود إلى أماكنهم أخبر الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن اليهود هم سبب هذه الحرب، وأصل هذه البلوى، فاذهب إليهم ولا تخلع لباس الحرب، فذهب رسول الله إلى جيشه العائد من الحرب وقال لهم: مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة" .
يريد الحرب، فعاد الصحابة وتوجَّهوا إلى بني قريظة، فدخل عليهم وقت المغرب وهم في الطريق فاختلفوا في صلاة العصر، فريق يقول يجب أن نصليها الآن قبل فوات وقتها، وفريق يقول: لا بل نصليها في بني قريظة كما أمر رسول الله.
إذن: رأى تعصَّب للزمان، ورأى تعصَّب للمكان، فمَنْ تعصَّب للزمان صلى في الطريق ومن تعصَّب للمكان صلى في بني قريظة، حتى إذا ما التقوْا برسول الله عرضوا عليه هذا الخلاف، فأقرَّ كلاّ منهم على رأيه، ولم يعارض هذا ولا ذاك.
إذن: كان اختلافاً شكلياً، وهم لا يدرون أنهم جميعاً على الحق، وأنهم في وفاق، إذن: حين نختلف علينا أنْ نردَّ الأمر إلى الله وإلى رسول الله، وأنْ نكون موضوعيين دون تعصُّب، هذا في الخلاف بين المؤمنين.
كذلك إنْ كان الخلاف مع أهل الكتاب اليهود أو النصارى، رُدُّوا خلافكم معهم إلى الله، لأن عندهم كتباً سماوية: التوراة والإنجيل، وفيها تصديق بمحمد خاتم الرسل، وفيها بشارة به، وفيها صفاته وعلاماته، بدليل أن منهم مَنْ آمن بعد بعثة رسول الله، فرُدوا خلافكم معهم إلى الله لتقطعوا عليهم طريق اللجج والعناد والخصومة.
ومعنى { فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } [الشورى: 10] وأيضاً إلى رسول الله لأنه نائب عن الله في الأحكام، وقد أعطاه الله حَقَّ التشريع بدليل قوله تعالى:
{ { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر: 7] وهذه مَيزة لم ينَلْها أحدٌ من الرسل قبل رسول الله، حيث كان عليهم البلاغ فقط، أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد فوّضه ربه في التشريع. لذلك لما قال أحد المجادلين: ما الدليل على أن الصبح ركعتان، والظهر أربع، والمغرب ثلاث؟ قال: الدليل قوله تعالى: { { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر: 7].
وكوْنك تحكِّم الحق سبحانه في مسألة خلافية وتعرضها على قول الله وقول رسول الله، هذه الرجعة تُنهي الخلاف وتُنهي المراء، ولا غضاضةَ على أحد أنْ يحتكم إلى قوة أعلى تلتقي عليها القلوب في صفاء ورضا بحكمه تعالى، ألا ترى أن الحكم عليك إنْ جاء من بشر مثلك ربما لا تقبله حتى لو كان صواباً، أما حين يكون الحكم لله فلا غضاضةَ ولا حرج.
{ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [الشورى: 10] { ذَلِكُمُ } اسم اشارة للتعظيم، فـ { ذا } إشارة، واللام للبُعْد، والكاف للخطاب { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي } تقولها وأنت فخور بها، مُعتز بالانتساب إليه سبحانه، وكأنه شيء عالٍ فوق كل تصوُّر، والرب قلنا: هو الذي يتولَّى التربية والعطاء، ومنه الفضل والإنعام، وعليه أتوكل في كل أمري { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [الشورى: 10] أرجع وأعود في الآخرة للحساب والجزاء.
وحين أقول { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي } [الشورى: 10] فأنا معتز بالربوبية التي تُربي وتعطي، ومعتز بالألوهية التي تكلف، لأن التكليف من تمام التربية، ومقتضى تربيتي أن تكون دنياي سعيدة، لكن الدنيا موقوتة ومنتهية، فالتربية الحقة إذن أنْ أربيك لشيء أبقى وأدوم وهي الآخرة التي لا ينقطع نعيمها ولا أغادرها بموت ولا تغادرني بفناء.
البعض يقول: التربية هنا للمادة، نقول: للمادة وللقيم والروح أيضاً، لذلك يقول تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال: 24] ما معنى (يحييكم) هنا ألم يخاطبهم وهم أحياء يسمعون؟ إذن: المراد حياة أخرى غير حياة المادة، المراد حياة القيم والروح، الحياة الخالدة التي لا تفوتك ولا تفوتها.
لذلك يُسمَّى المنهج الذي يمنحك هذه الحياة روحاً قال تعالى:
{ { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52] نعم روحاً، تعطيك الحياة الأبدية أما الروح الأولى فتعطيك فقط الحياة الدنيا، ويُسمى كذلك الملك الذي ينزل بالمنهج روحاًَ: { { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193].
إذن: نفهم أن الحياة المطلوبة ليستْ هي الحياة الدنيا، إنما الدنيا وسيلة وأداة مُوصِّلة إلى غاية أفضل منها، ولكي أصل إلى هذه الغاية ينبغي عليَّ أن أستقيم على منهج مَنْ سيعطيني هذه الحياة.
إذن { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي } [الشورى: 10] جمعت بين لفظ الألوهية والعبادة والتكليف وبين لفظ الربوبية التي تُربِّي وتعطي وتمنح.
وتأمل آداء القرآن في مسألة التوكل (عَلَيْهِ تَوكَّلْتُ) أهل اللغة يسمون هذا الأسلوب أسلوبَ قصر بتقديم الجار والمجرور (عَليْه) مُقدَّم على الفعل (توكَّلْتُ) وهذا يفيد القصر والحصر، فتوكّلي على الله لا على سواه على الله فحسب، أما لو قلت: توكلت على الله يجوز أنْ تزيد عليها: وعلى فلان. فأسلوب القصر يقصر التوكل على الله وحده.
قالوا: والتوكل على الله رصيدُ مَن فقد الأسباب وخرج من حَوْله وقوته إلى قوة ربه وخالقه؛ لأن الله تعالى جعل لكل شيء أسباباً، فإذا عزَّتْ الأسباب نلجأ إلى المسبِّب سبحانه:
{ { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل: 62].
والمضطر هو الذي استنفد كل الأسباب المتاحة، وعندها لا يُسلِم نفسه للأحداث ولا ييأس، إنما يقول: إن لي رباً فوق الأسباب، فهو خالقها ومسبِّبها ولن يتخلى عني حين ألجأ إليه.
وسبق أن ذكرنا لكم قصة سيدنا موسى عليه السلام لما أدركه فرعون وجنوده وحاصروهم عند شاطئ البحر، حتى قال أصحاب موسى
{ { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61] فواقع الأحداث أن البحر أمامهم والعدو خلفهم ولا مفرّ، لكن لموسى مع ربه حسابات أخرى، فقال رداً عليهم: { { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62].
وهذا هو التوكل الذي يعتمد على الثقة بالله، توكل المضطر الذي عزَّتْ عليه أسبابه، ولم يَبْقَ له إلا أنْ يلجأ إلى الله، لذلك جاء الجواب من الحق سبحانه معجزةً خالدة باهرة:
{ { أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ } [الشعراء: 63-66].
كذلك في { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [الشورى: 10] أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور على الفعل يعني: أرجع إليه وحده لا إلى أحد سواه. وتلحظ على الأسلوب هنا أن التوكل جاء بصيغة الماضي { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [الشورى: 10] أما الإنابة فجاءت بصيغة المضارع { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [الشورى: 10] هذه الدقة في التعبير، لأن المتكلم بهذا الكلام هو الله.
فطبيعي أن تجد هذه الحبكة والدقة اللغوية، ذلك لأن التوكل عقيدة راسخة من أول الأمر وقبل أنْ تتكلم في التوكل، فهو ناشئ أولاً وموجود، أما الإنابة إليه والرجوع فيكون وقت الحدث في المستقبل حينما نرجع إليه سبحانه.
ثم يتحدث عن حيثية أخرى من حيثيات قدرته تعالى وأنه هو الولي الحق:
{ فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم ... }.