التفاسير

< >
عرض

لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٢
-الشورى

خواطر محمد متولي الشعراوي

أولاً: لاحظ هنا أسلوب القصر في { لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الشورى: 12] بتقديم الجار والمجرور، فمقاليد السماوات والأرض له وحده ومِلْكه وحده، ومقصورة عليه سبحانه لا يشاركه فيها أحد.
كلمة { مَقَالِيدُ } [الشورى: 12] جمع مقلاد وهو المفتاح؛ لذلك قال تعالى في موضع آخر
{ { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ .. } [الأنعام: 59] فله سبحانه مفاتيح الخير في السماوات وفي الأرض، ومعنى مفاتيح أنها تغلق على شيء نافع ومفيد.
والغيب خزينة من هذه الخزائن المغلقة، فحين يعطي الله مفتاحها لأحد ويُطلعه على شيء من الغيب يُجريه على لسانه مكرمة وفضلاً منه تعالى عليه، ولا يعني هذا أنه أصبح عالماً للغيب ويفتح مكتبَ علم الغيب، بل يأخذ حاجته التي أكرمه الله بها ويعطي المفتاح لصاحبه
{ { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ .. } [الأنعام: 59] فمَنْ يدَّعي علم الغيب لا يعرف كيف يتأدب مع الله.
ونحن نستخدم هذه الكلمة (مَقَالِيد) في لغتنا العامة الآن فنقول: فلان بيده مقاليد الحكم أو مقاليد الأمور في الشركة أو المصنع، يعني: هو المسئول الذي يملك القرار وبيده مفاتيح العمل وأسراره.
وقوله تعالى: { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ .. } [الشورى: 12] أي: هنا بمفتاح ومقلاد من هذه المقاليد هو مفتاح الرزق، يبسطه سبحانه لمن يشاء ويُوسعه ويُيسِّره، وأيضاً يقبضه ويُضيقه على مَنْ يشاء من عباده، والمقاليد على الأرزاق تشرح لنا قوله تعالى:
{ { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر: 21] يعني: بسط الرزق أو يقبضه بعلم وبقدر وبحكمة.
لا تظن أن الأرزاق توزع هكذا كما اتفق لا، لأن الموزِّع لها عليم بخَلْقه وخبير بأسرارهم وخفاياهم، حكيم يضع الشيء في موضعه، لذلك لا تتعجب حينما ترى الغني المترف الذي يملك الملايين وجاره لا يجد قوت يومه، لا تتعجب حينما ترى مثلاً أصحاب المحلات التجارية، هذا يبيع ويشتري وعنده رزق وفير وبجواره محل مثله لا يدخله أحد، لا تتعجب لأن وراء هذا وذاك حكمة عرفها مَنْ عرفها وجهلها مَنْ جهلها.
ويكفي أنْ تقرأ:
{ { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر: 21] وهنا ذيَّل الآية بقوله: { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الشورى: 12] يعلم مَنْ يعطي ومن يمنع، ولذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجلي لنا هذه الحِكَم، يقول: قال الله عز وجل في الحديث القدسي: "إن من عبادي مَنْ إذا أغنيته لَفسد حاله، ومنهم مَنْ إذا أفقرتُه لصلح حاله" .
والحق سبحانه يقول: { { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7].
ففَقْر الفقير لحكمة، والغِنَى عند الغني لحكمة، فلا تعترض وتأمل فربما كان المال عندك أداة سطو وبطش وتعدٍّ وطغيان، وربما دعاك المال إلى العصيان أو ولَّد عندك نزوعاً للشر، فحين يمنعك الله هذه الأداة فإنما منعك ليرحمك بالفقر فالغِنَى لا يناسبك، وصلاحك في الفقر، وفي شيء من الرضا بما قَسَمه الله لك، وألاَّ تمدّ عينيك إلى مَنْ هو أعلى منك في متاع الدنيا وزخرفها.
كثيراً ما نرى أولاد الأغنياء فاسدين بسبب كثرة المال في أيديهم، في حين تجد ابن الفقير مُعَافى من هذا، وربما يكون أحسنَ حالاً من ابن الغني، وفي واقعنا نماذج كثيرة من ذلك.
والمؤمن مُطَالب أن يعيش في حدود إمكانياته المادية، والذي يتعب الناس الآن أنك تجد الواحد منا يفرض لنفسه مستوى معيشة معين قبل أن يفرض لنفسه دخلاً يوازي هذا المستوى الذي اختاره لنفسه، فلما يحدث العجز يُضطر للحرام للغش وللسرقة وللرشوة وغيرها من وسائل الكسب الحرام ليغطي نفقات معيشته.
قال تعالى:
{ { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } [الطلاق: 7].
المؤمن يدخل السوق فيجد فيه ما لذَّ وطاب، الرومي واللحوم والأسماك والفاكهة، وقد تشتاق نفسه إليها لكن يتحلَّى بالرضا ويَقْنع بما في مقدوره، فيشتري كيلو فول أخضر ونصف كيلو جبنة، ويذهب ليأكل في وسط أولاده فيجد لهذه الأكلة البسيطة طعماً ولذة ربما لا يجدها الغني.
أما إن امتدتْ عينه إلى فوقه مستواه فتراه يشتري بالدِّين ويأكل كما يأكل الأغنياء، بل ربما أسرف على نفسه ودخل في منطقة التبذير، ثم بعد أيام يأتي مَنْ يطرق بابه يطالبه بدَيْنه فيجد من مذلة المطالبة أضعاف ما وجد من لذة الطعام.
لذلك الحق سبحانه يخاطب ابن آدم: "يا ابن آدم، خلقتُكَ للعبادة فلا تلعب، وقسمتُ لك رزقك فلا تتعب - ولا يعني هنا تعب الجوارح إنما تعب الفكر والهَمّ وشغل البال - فإنْ رضيتَ بما قسمتُه لك أرحْتُ قلبك وبدنك وكنتَ عندِي محموداً، وإنْ أنت لم تقنع بما قسمتُه لك فوعزتي وجلالي لأسلطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركْضَ الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمتُه لك وكنتَ عندي مذموماً. يا ابن آدم خلقتُ السماوات والأرض ولم أَعْىَ بخلقهن أيُعييني رغيفٌ أسوقه إليك، يا ابن آدم لا تطلب مني رزق غَدٍ كما لا أطالبك بعمل غد، يا ابن آدم أنا لك مُحِبٌّ فبحقي عليك كُنْ لي مُحباً".
وحين يرضى الفقير بما قسمه الله له، ولم يتطلع إلى أعلى من مستواه يقول الله له: رضيتَ بقدري، فالآن أعطيك على قَدْري. لذلك تجد كل عظماء العالم وقادته بدأوا حياتهم في فاقة وفقر مدقع وقد حدثونا عن تاريخ بعض هؤلاء، وكيف أنهم جاءوا من قاع المجتمع.
ولما تتأمل مسألة تضييق الرزق على بعض الخَلْق تجد له حكمة اجتماعية، هذا التفاوت يؤدي إلى نوع من التكامل بين عناصر المجتمع، وتصور لو أن المجتمع كله أغنياء مبسوط لهم الرزقَ، مَنْ سيقوم على خدمتهم؟
مَنْ يصنع لهم ويزرع ويقضي المصالح الأدنى؟ إذن: لا بدَّ من وجود طبقة الفقراء لتقوم بهذا الدور، لا عن تفضُّل إنما عن حاجة يحتاج العامل أجره فيعمل، ويحتاج الخادم أجره فيخدم ويمسح ويكنس، فالحاجة والمنفعة هي التي تربط عناصر المجتمع.
ومن العجيب أنك ترى الآن رجال الأعمال وأصحاب المصالح يشتكون من العمال، يقول لك العامل ما دام معه فلوس وجيبه (مليان) لا يعمل إلى أن ينتهي ما معه من نقود فيعود إلى العمل، وهكذا ..
وأذكر من نوادر أستاذنا الشيخ موسى شريفرحمه الله أنْ كان يقول ذات مرة: اللهم ارزق العلماء واغْنهم وافقر الصنّاع، فلما سألناه قال: لأن العالم إنْ لم يكنْ غنياً ربما أذلته فتوى، أما الصانع أو العامل فإنه لا يعمل إلا إذا كان محتاجاً للمال.
وسبق أنْ قلنا: إن الإنسان منا إذا اجتهد في عمله وأخلص له مدة عشر سنين يعيش مرتاحاً باقي عمره، وإنِ اجتهد عشرين سنة ارتاح وأراح أولاده من بعده، وإنِ اجتهد ثلاثين سنة أراح أحفاده، إذن: على قَدْر العمل يكون العطاء.
ثم ينبغي أن نظل على ذكر لتقلُّب الأحوال، والحق سبحانه يقول:
{ { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ .. } [آل عمران: 40] فالنعمة وبسطة الرزق عندك اليوم، وقد تصبح عند غيرك أو تمسي.