التفاسير

< >
عرض

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢١
-الشورى

خواطر محمد متولي الشعراوي

يعني: لماذا كذَّبوا محمداً ولم يؤمنوا بما جاء به؟ ألهم شركاء وضعوا لهم شرعاً ومنهجاً يتبعونه، وديناً يدينون به ويتركون دين محمد؟ والشركاء أي: الأشياء التي عبدوها من دون الله، منهم مَنْ عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر أو الشجر أو الحجر أو الملائكة، فهل هذه الآلهة المدَّعاة لها شرع؟ هل قالت لهم: افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا؟
إذن: آلهة بلا منهج وبلا تكاليف فعبادتها باطلة، وهم ما عبدوها إلا لذلك، لأنها بلا منهج وبلا تكاليف، فقط تُرضِي ما في نفوسهم من الرغبة في التديُّن، وما أسهلَ أن يكونَ للإنسان دينٌ بلا تكاليف. والعبادة ما هي إلا طاعة العابد للمعبود في أمره ونهيه، ثم ماذا أعدَّتْ هذه المعبودات لمن أطاعها، وماذا أعدَّتْ لمَنْ عصاها؟
إذن: هذه جمادات لم تقُلْ لكم شيئاً، ولم تأمركم بشيء، ولم تشرع لكم ديناً، بل أنتم شرَّعتم لأنفسكم واتبعتم أهواءكم لإرضاء عاطفة في نفوسكم، آلهتكم من صُنْع أيديكم أو أفكاركم السقيمة الضالة.
لذلك يقول تعالى:
{ { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [المائدة: 103].
نعم هؤلاء قوم يفترون على الله الكذب، ويختلقون من عند أنفسهم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، فمن أين أتوا بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام؟ هذه أشياء اخترعوها من عندهم افتراً على الله وكذباً.
فالبَحيرة هي الناقة التي ولدتْ خمس مرات، فهي عندهم أدَّتْ ما عليها، فيشقون أذنها ويتركونها سائبة لا تُركب ولا يُشرب لبنها، ولا تُدفع عن الماء ولا عن المرعى، وهذه أمور ما شرعها الله، وقد أحلَّ الله لهم حتى الانتفاع بلحمها.
كذلك السائبة: كانوا إذا اشتكى الواحد منهم من وجع أو نزلتْ به نازلة قال: إذا حصل كذا وذهب المشكو منه أجعل ناقتي هذه سائبة لا تُركب ولا يُشرب لبنها، ولا تُرد عن الماء ولا عن المرعى.
والوصيلة هي الشاة كانت إذا ولدتْ ذكراً جعلوه للآلهة وذبحوه للخدم والسَّدنة، وإذا ولدت أنثى أخذوها لهم لتُنجب عندهم، أما إذا ولدتْ ذكراً وأنثى احتفظوا بهما الأنثى وصلتْ أخاها، فلم يُؤخذ للآلهة بل يظل معها.
والحام: هو البعير حمى ظهره من أنْ يركب إذا أنتج عشرة أبطن فيقولون: إنه أدى ما عليه، فلا يُركب ولا يُردّ عن الماء ولا عن المرعى.
هذه كلها أمور أحلَّها الله لهم وحرَّموها على أنفسهم، لذلك قال سبحانه في سورة الأنعام:
{ { ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ } [الأنعام: 143-144].
فالحق سبحانه يقول لهم: أخبروني مَنْ حرَّم هذه الأشياء
{ { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا .. } [الأنعام: 144] أي: بهذا التحريم الذي شرَّعتموه من عندكم افتراءً على الله، إذن: أنتم جعلتم المشرَّع له مُشرَّعاً، شرع لنفسه بدل أنْ يتلقى التشريع من الله.
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ .. } [الشورى: 21] أي: الحكم بعدم إهلاكهم وتأخير عذابهم إلى الآخرة { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ .. } [الشورى: 21] يعني: حُكِم عليهم بالعذاب العاجل.
حين ننظر في الأشياء التي أحلَّها الله والأشياء التي حرَّمها نجدها تعتمد على مراعاة المنفعة ودفع المضرة عن الإنسان، فالحلال فيه نفع والحرام فيه ضرر، لذلك نجد بعض المستشرقين يعترضون على أشياء حرَّمها الحق سبحانه على بني إسرائيل مثلاً وهي غير ضارَّة، وغيرهم يأكلها ولا تضره.
نعم حرَّم الله على بني إسرائيل كُلَّ ذي ظفر من البقر والإبل، وغير مشقوقة الأصابع مثل: البط والأوز والنعام، وحرَّم عليهم الدهون
{ { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ .. } [الأنعام: 146] وهذه كلها أشياء حلال لغير بني إسرائيل وليس فيها ضرر، إنما حُرِّمت عليهم عقاباً لهم وتأديباً فليستْ العلة في التحريم الضرر.
قال تعالى:
{ { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ .. } [النساء: 160] فلما ظلموا أدَّبهم الله بأنْ حرَّم عليهم ما أحلَّ لغيرهم.
ثم نلحظ على الآية أنها عبَّرتْ عن باطلهم الذي جاءوا به من عند أنفسهم بأنه دين { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ .. } [الشورى: 21] فسمي الباطل ديناً تجاوزاً، لأنهم مؤمنون به ويعتبرونه ديناً، كما قال تعالى:
{ { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [الكافرون: 6] على اعتقادهم، والدين ما يدين به الإنسان.
{ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الشورى: 21] الظالم إما يظلم غيره، وإما يظلم نفسه، وهذا أشنع أنواع الظلم، فقد يعقل أن يظلم الإنسان عدوه، إنما يظلم نفسه التي بين جنبيه؟! فكيف يكون ظلم الإنسان لنفسه؟ يظلمها حين يُعرِّضها للعقوبة، ويحرمها من الثواب والنعيم، وأشد أنواع ظلم الإنسان لنفسه أنْ يظلمها في مسألة العقيدة والإيمان بالله
{ { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13].