التفاسير

< >
عرض

تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٢٢
-الشورى

خواطر محمد متولي الشعراوي

كلمة { تَرَى .. } [الشورى: 22] تدل على كل ما يتأتى منه الرؤيا { مُشْفِقِينَ .. } [الشورى: 22] خائفين مرعوبين { مِمَّا كَسَبُواْ .. } [الشورى: 22] مما فعلوا من السيئات، قلنا: إن الفعل كسب يكسب من الزيادة على رأس المال أي الربح، وأنها دائماً تأتي في كسْب الخير، أما اكتسب فهي على وزن افتعل فيها افتعال ومحاولة وتأتي في الشر، لكن هنا استخدم كسب للسيئات.
وكما في قوله تعالى:
{ { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ .. } [البقرة: 81] قالوا: استخدم كسب هنا لأن السيئة أصبحتْ عنده عادةً وأمراً طبيعياً يشبه فعل الخير عند أهل الخير، فهو يفعل السيئة فلا تتعبه لأنه أَلِفها.
قوله: { مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ .. } [الشورى: 22] تصوير لموقفهم يوم القيامة، لأنهم في الدنيا ما خافوا وما عملوا لهذا اليوم حساباً { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ .. } [الشورى: 22] يعني: لا محالة في ذلك لأنه وَعْد الله وحكمه الذي أخبر به.
أو خائفين وهم ما يزالون في سعة الدنيا، وفي هذا دليل على وجود الضمير والنفس اللوامة في الإنسان، فهو يعرف السيئة ويعرف جُرْمه، ويعرف أنه محاسب عليه، لذلك يخاف منه ويؤنبه ضميره.
وفي المقابل { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } [الشورى: 22] هذا إخبار من الله تعالى وهو حق، فعاقبة الإيمان والعمل الصالح روضات الجنات يعني ملاذها وأطيب أماكنها يجدونها يوم القيامة، ويجدونها حتى في الدنيا بالتخيل لها والشوق إليها.
فالشهيد الذي يجود بنفسه في سبيل الله لم يُقدم على ذلك إلا لثقته في هذا النعيم، وأنه إذا قُتِل في سبيل الله سيذهب إلى خير من هذه الحياة.
وقد ذكرنا
"قصة الصحابي الذي سمع من رسول الله جزاء الشهداء، فقال: يا رسول الله أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أقاتل هؤلاء فأُقتل؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى. فألقى الصحابي تمرة كانت في فمه وبادر إلى الشهادة، ولم ينتظر حتى يمضغ التمرة التي كانت في فمه" ، لماذا؟ لأنه واثق من صدق الجزاء في قوله تعالى: { { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران: 169].
نعم الشهداء أحياء، وأحياء عند مَنْ؟ عند ربهم، وهذه قمة الشرف والعز والنعيم، وهي خصوصية لم ينلْها غيرهم، فالشهادة نقلتهم من حياة لحياة، فلا يموتون بعد ذلك، ويُبعثون مع الناس وهم أحياء.
وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى حين قال في سيد الشهداء حمزة ابن عبد المطلب عم رسول الله:

أَحَمْزَةُ عَمّ المصْطفى أنتَ سَيِّدٌ عَلَى شُهَداء الأرض أجمعِهمْ طُرّا
وحَسْبُكَ مِنْ تلْكَ الشَّهادة عِصْمةٌ مِنَ الموت في وصْلِ الحياتين بالأُخْرى

وقوله: { فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ .. } [الشورى: 22] روضات جمع روضة، وهي الحديقة أو البستان المليء بالخضرة والنضرة والأزهار والثمار، بحيث إذا دخلتها تنفحك بأريج عطرها، وفي خلال ذلك أنهار تجري بالماء العذب.
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات يعني: في أفضل أماكنها وأطيبها { لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ .. } [الشورى: 22] فهذه العندية أشرف وأعظم من أيِّ نعيم آخر، فهم في نعيم الجنات وملاذِّها، يفوق ذلك كله أنهم عند ربهم، لذلك ختم الآية بقوله: { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } [الشورى: 22] أي: تفضُّلاً من الله وتكرُّماً عليهم.
والإنسان منا حين يتأمل هذا النعيم الدائم المقيم الذي أعده الحق سبحانه لعباده المؤمنين تهون عليه كلُّ مشاق الطاعات والعبادات، ويرى أنها يسيرة إذا ما قُورنت بالجزاء عليها.
فالإنسان يتعب في الدنيا ويجتهد في طلب العلم عشرات السنين، أو في تعلُّم صنعة أو مهنة ويتحمل مصاعبها وأخطارها، كلّ ذلك ليوفر لنفسه مجرد ضروريات الحياة، فإن اجتهد أكثر وعرق وبذل الجهد، ربما يصل إلى مرحلة الرفاهية، فيكون له خادم يخدمه أو طباخ مثلاً يُعد له الطعام، وهؤلاء يعملون عنده بأجر وربما قصَّروا في أعمالهم، وربما أغضبوك وتمردوا عليك.
لكن حين تعمل للآخرة تجد الأمر مختلفاً تماماً، فالعبادة أمرها يسير، لا تحتاج منك إلى كل هذا الجهد وهذا العرق وسهر الليل وعمل النهار وانشغال البال والذهن، ومع يُسْرها وسهولتها فالجزاء عليها عظيم لا تحدُّه حدود ولا يخطر على بال.
قلنا: إن قصارى ما توصَّل إليه البشر في التقدم العلمي في مجالات الخدمة الفندقية مثلاً أنْ تضغط على زر في ماكينة ينزل لك منها الشاي أو القهوة، وهذه آلة يمكن أنْ تتعطل وخلفها عامل يُعِدُّ لك الشاي أو القهوة، أمَّا في الجنة فالنعيم هناك صَافٍ لا يُنغِّصه شيء ودائم لا ينقطع، لا يحتاج منك إلى طلب ولا ضغط على زر ولا مناداة على خادم، مجرد أن يخطر الشيء ببالك تجده بين يديك، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر" .
واقرأ مثلاً في سورة البقرة: { { وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ } [البقرة: 25].
ففي الجنة إنْ شاء الله سنجد أشياء كنا نأكلها في الدنيا، فنتصور أنها مثل نعيم الدنيا، لكن حين نتذوقها نجدها شيئاً آخر
{ { قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً .. } [البقرة: 25] ذلك لأن كمالات الحق سبحانه لا تتناهى، فلا تظل على حالة واحدة رتيبة، إنما فيها ارتقاء في النعمة.
إذن: نحن أمام نعيم دائم يهون في سبيله كلُّ تعب وكلُّ مشقة، ووالله لو لم يكُنْ للطاعة جزاء إلا سلامة الإنسان وسعادته في الدنيا لكانتْ كافية، يكفينا من الطاعة راحة البال وهدوء النفس والطمأنينة. وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى فقال:

قَالَ المنجِّمُ وَالطَّبيبُ كلاَهُمَا لاَ تُبعَثُ الأجْسَادُ قُلْتُ إليكُمَا
إنْ صَحَّ قولكُما فَلَستُ بخاسِر أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالخَسَارُ عليكُمَا

لذلك الحق سبحانه وتعالى لما أراد أنْ يصف لنا الجنة لم يصف الجنة ذاتها إنما مثلاً لها، لأن الجنة وما فيها فوق تصور البشر، وإذا كان فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيكف إذن تُوصَف لنا على حقيقتها؟ لأن الإنسان لا يضع اللفظ إلا لمسمى معلوم عنده، أما الشيء الذي لا نعرفه فلا نعرف بالتالي اللفظ الدَّال عليه، فليس في لغتنا ألفاظ تصف هذا النعيم، لذلك اقرأ: { { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ .. } [الرعد: 35] فيها كذا وكذا.
ثم إن هذا النعيم المقيم جزاء لمن؟ لمن آمن وقرر الإيمان بالعمل الصالح، ودائماً يقرن القرآن بين الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30].
ثم يقول الحق سبحانه:
{ ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ ... }.