التفاسير

< >
عرض

فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ
٤٨
-الشورى

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله تعالى: { فَإِنْ أَعْرَضُواْ .. } [الشورى: 48] أي: عن كل هذه المسائل وتركوك وانصرفوا عن المنهج الذي جئتهم به، ومنه قوله سبحانه: { { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } [الإسراء: 83] فإن انصرفوا عنك يا محمد { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ .. } [الشورى: 48].
هذه تسلية لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان دائماً حريصاً على هداية القوم يحزنه إعراضهم وانصرافهم عن الهدى الذي جاء به، وقد كان يشق على نفسه في هذه المسألة حتى يكاد أن يهلكها، لذلك خاطبه ربه في أكثر من موضع يُسلِّيه ويُخفِّف عنه وينهاه أنْ يُحمِّل نفسه فوق طاقتها.
قال تعالى:
{ { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3] وقال في الكهف: { { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6].
وهنا يقول له: { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً .. } [الشورى: 48] يعني: مراقباً لهم مَنْ آمن وَمَنْ كفر، فمهمتك يا محمد هي مجرد البلاغ { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ .. } [الشورى: 48] وليس لك أنْ تجبر أحداً على الإيمان.
ثم يُقرر الحق سبحانه حقيقة طبع عليها الإنسان { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا .. } [الشورى: 48] هذا أمر منطقي أنْ يفرح الإنسانُ بالرحمة وبالخير يُساق إليه، والفرح هنا بمعنى البطر، والإنسان هنا اسمُ جنس يفيد العموم.
{ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ } [الشورى: 48] لاحظ أن الرحمة لم تُنسب إلى الإنسان لأنها ليستْ من عمل يده، إنما نُسبت إليه السيئة لأنها نتيجة سَعْيه وجني يديه.
إذن: لا تُنسب السيئة إلى الله لأنها بعملك أنت، فإنْ نسبَتها لله فقد كفرتَ به { فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ } [الشورى: 48] كفور لنعمة الله عليه، ومن كفران النعمة أنْ تنسب الأسباب لغير المسبب.
وكفران النعمة وجحودها طَبْع في الإنسان إلا مَنْ رحم الله، فمثلاً يأتيك رجل يطرق بابك لتتوسط له في مصلحة فتقف إلى جواره وتساعده حتى يقضي مصلحته، الحقيقة أن الله هو الذي يقضي ويُيسِّر، وما أنت إلا سبب، وقد صادف تدخلك فيها وقت قضائها. يعني: كانت ستُقضى بدون واسطة.
إذن: شفاعتك لم تأتِ بالمصلحة للغير إنما صادفتْ القبول، العجيب بعد ذلك أنْ تجد الإنسان مُتغطرساً لا يعترف بالجميل لصاحبه وينسبها لنفسه: أنا عملتُ كذا وكنتُ على استعداد لكذا وكذا، لماذا؟ لأن الجميلَ إحسانٌ، والإحسانُ يجعلك ذليلاً لمن أحسن إليك.

أحسِنْ إلَى النّاسِ تستعبِد قُلُوبَهُم فَطَالَما اسْتَعْبدَ الإنْسَانَ إحْسَانُ

فمَنْ ينكر الجميل يريد أنْ يتحرر من هذه الذِّلة، وما أشبه مُنكِر الجميل بقارون الذي قال: { { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ .. } [القصص: 78] وقديماً قالوا: اتَّقِ شر مَنْ أحسنتَ إليه، لماذا؟ لأنك تُذكِّره بحال ضعفه وحاجته للمساعدة.
إذن: { فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ } [الشورى: 48] أي: للنعمة يحب أنْ ينسبها لنفسه، وفي ذات الوقت يُبعد عنها الشر والسيئة، وكلاهما كُفرانٌ لنعمة الله.
والحق سبحانه حينما يُحدِّثنا عن نعمته يقول:
{ { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34] أولاً: استخدام (إنْ) التي تفيد الشك، لأن نِعَم الله من الكثرة بحيث لا تُعَدّ، ولا يُقدِم أحد على عَدِّها لأنك لا تقبل على العَد إلا لشيء مظنة الإحصاء، فلا أحدَ يقول مثلاً: أعد حبَّات الرمال.
كذلك نِعَم الله فوق إمكان العَدِّ والإحصاء، ثم جاء بلفظ { نِعْمَتَ } [إبراهيم: 34] بصيغة المفرد ولم يقل نِعَم، فالنعمة الواحدة لا تُعدُّ، فما بالك بالنِّعَم؟
وهذه الآية
{ { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34] جاءت بهذا اللفظ في موضعين من كتاب الله، واحدة خُتمتْ بقوله تعالى: { { إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم: 34] والأخرى بقوله تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 18].
فاختلاف تذييل الآيتين له معنى، لأن أمر النعمة له عناصر، مُنعِم وهو الله عز وجل، ومُنعَم عليه وهو العبد، ثم النعمة وهي التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى.
فصفة المنعِم سبحانه أنه كريم يعطي عبده ويتفضَّل عليه حتى وإنْ جحد النعمة أو كفر بها، لذلك قال:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 18] والمنعَم عليه من صفته أنْ يجحد النعمة، وأنْ يكفرَ بها ظلماً وعدواناً، لذلك قال في الأخرى: { { إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم: 34].