التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
٥١
-الشورى

خواطر محمد متولي الشعراوي

نعم. هذه وسائل ثلاث لا بدَّ من وجود واحدة منها ليتمَّ اتصال الحق سبحانه بالبشر، ذلك لأن للبشر طبيعة تكوينية لا تَقوَى على مباشرة الأعلى سبحانه، فلله صفات الجلال والكمال المطلق، ولا يمكن أنْ يلتقي الأعلى بالأدنى دون وسائط، منها الإلهام مثل الزبور الذي نزل على سيدنا داود، فلم ينزل عليه بوحي من الله بواسطة رسول كما نزل القرآن، إنما جاء إلهاماً قذفه الله في روع سيدنا داود.
يقول تعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ .. } [الشورى: 51] كما كلم سيدنا موسى { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً .. } [الشورى: 51] يعني: يرسله بالوحي، والرسول هنا من الملائكة، كما أرسل الله جبريل بالقرآن، وإنْ نزل في صورة بشر ليكون أقربَ إليهم وآنسَ لهم.
فقوله: { إِلاَّ وَحْياً .. } [الشورى: 51] أي: إلهاماً يقذفه الله في قلب مَنْ يشاء، فإنْ قلتَ: فكيف نعرف الإلهام من وسوسة الشيطان؟ قالوا: الإلهام من الله لا يناقضه مخالفة، بل يدخل عليك مُسلَّمة لا جدالَ فيها، وقلنا: إن وارد الرحمن لا يزاحمه وارد الشيطان أبداً.
ومثَّلنا لذلك بقوله تعالى في قصة سيدنا موسى وأمه:
{ { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [القصص: 7].
هذا وحي من الله بطريق الإلهام، لذلك لم تناقشه أم موسى ولم تجادل فيه، بل أقبلتْ على تنفيذه راضية مطمئنة، وإلاَّ فأيُّ قياس عقلي يقول للأم، إذا خِفْتِ على ولدك فألقيه في اليمِّ.
ونذكر هنا وقفة للمستشرقين حاولوا فيها أنْ يجدوا على القرآن مأخذاً، فقالوا بتكرارها، لأن الحق سبحانه قال في موضع آخر:
{ { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ * أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [طه: 38-39].
والمتأمل في الموضعين يجد الآية الأولى كانت تمهيداً للحدث بدليل
{ { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ .. } [القصص: 7] فإذا للمستقبل، أما قوله تعالى: { { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ .. } [طه: 39] فكان وقت التنفيذ.
وقوله: { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ .. } [الشورى: 51] قلنا: كما كلَّم الله سيدنا موسى عليه السلام { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ .. } [الشورى: 51] الوحي هنا ليس إلهاماً كالأول، إنما وحي مباشر بواسطة رسول من الملائكة، كما حدث في نزول القرآن الكريم على قلب سيدنا رسول الله بواسطة أمين الوحي جبريل، وكان يأتي رسول الله مباشرة ويعطيه ما شاء الله من القرآن.
إلا أن الله تعالى أراد أنْ يُثبِّت هذه المسألة عندهم، فمرة يأتيهم جبريل في صورة رجل حسن المنظر لا يُرى عليه أثر السفر، كما ورد في الحديث، ويسأل رسول الله ويُصدِّقه ليتعلَّم الناسُ منه أمور الدين، فلما انصرف قال سيدنا رسول الله
"إنه جبريل أتاكم يُعلِّمكم أمور دينكم" .
وهذه المسألة نرد بها على الذين طلبوا أنْ يكونَ الرسولُ من الملائكة، لأن الرسول لو جاء مَلَكاً لجاءهم في صورة رجل ليتمكنوا من التلقِّي منه، ثم إن الرسول أسْوة وقدوة وسلوك، والقدوة لا تتم بالملائكة لأنه إنْ قال لي افعل كذا وكذا لي أن أقول له لا أقدر على ذلك، فأنت مَلَك وأنا بشر لي قدرة محدودة.
إذن: نقول إن القرآن لم يأْت إلهاماً ولا نَفْثاً في الرَِّوع، ولم يأتِ من وراء حجاب، إنما جاء بالوحي المباشر بواسطة الملَك، وقد رأى سيدنا رسول الله جبريل على صورته الحقيقية
{ { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } [النجم: 13-14] ومسألة الوحي والتلقي عن الحق سبحانه تقوم كلها على الاصطفاء { { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ } [الحج: 75].
فليستْ كل الملائكة تتلقَّى عن الله، بل مَنْ اصطفاه الله لذلك، ثم يصطفي من الناس رسلاً تتلقَّى عن الملَك، فالمصطفى من الملائكة ومعه المصطفى من البشر يُمكنهما التلقّي عن الله، وتذكرون أننا مثَّلنا لذلك بـ (الترانس) أي المحول الذي يعطي الجهاز الكهرباء على قدْر حاجته وإمكانياته، ولو ارتفع التيارُ لاحترق الجهاز، كذلك البشر لا يمكن أنْ يتلقوا عن الله مباشرة.
لذلك خُتِمتْ الآيةُ بقوله سبحانه: { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى: 51] يعني: أعلى من أن يخاطب البشر مباشرة، فالله أعلى من ذلك { حَكِيمٌ } [الشورى: 51] في اختياره فيمن يصطفيه للتلقِّي عنه سبحانه.