التفاسير

< >
عرض

أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ
١٨
-الزخرف

خواطر محمد متولي الشعراوي

الهمزة هنا أيضاً للاستفهام، يقول سبحانه: أتستوي عندكم البنت التي تُنشَّأ في الحلية بالولد. ومعنى { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ } [الزخرف: 18] يعني: تُربَّى في الزينة والرفاهية، فالبنت عندنا مثلاً نهتم بها وبملبسها ومظهرها، نُلبسها الحَلَق والأسوْرة والثياب الجميلة على خلاف الولد.
{ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ .. } [الزخرف: 18] أي: في مواقف الجدل والدفاع { غَيْرُ مُبِينٍ } [الزخرف: 18] يعني: ليس له قوة في إظهار الحجة.
إذن: البنت التي نسبوها لله تُربَّى على الرفاهية والنعمة، ولبس الحرير والذهب والزينة، لأنها خُلقَتْ للاستمالة، ونحن نحرص على مظهر البنت وشكلها ونُزيِّنها أولاً وأخيراً لتتزوج.
وفي الغالب نلجأ للزينة وللجمال الصناعي حينما لا يتوفر للبنت الجمال الطبيعي، بدليل أن العرب كانت تسمي المرأة الجميلة غانية. يعني: استغنت بجمالها الطبيعي عن أيِّ زينة.
أما الذكر فعلى خلاف ذلك، الذكر مع أبيه في الحقل وفي المصنع، وفي الخصام والجدال، وفي كل عمل شاقّ، فهل يستويان؟
وهذا لا يعني أن هذه قاعدة عامة في الجنس كله، فقد نجد في النساء صاحبة الرأي السديد والحجة القوية التي فاقتْ الرجال. تذكرون لما مُنع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من دخول مكة للعمرة وهم على مشارفها، واضطرَّ رسول الله لأنْ يبرم معاهدة الحديبية مع كفار مكة على أنْ يعودَ هذا العام ويحجّ في العام الذي يليه.
عندما غضب الصحابة وثاروا وعزَّ عليهم أنْ يُمنعوا من البيت وهم على مشارف مكة، حتى أن سيدنا عمر ثار وقال: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فَلِمَ نعطى الدَّنية في ديننا؟
وكان القوم يخرجون عن طاعة رسول الله ويعصون أوامره، حتى دخل خباءه على السيدة أم سلمة وهو مُغْضَب، فقالت له: ما لي أراك مُغْضباً يا رسول الله؟ فقال: هلك القوم، أمرتُهم فلم يمتثلوا.
فقالت: يا رسول الله، اعذرهم فهم قوم مكروبون، وقد جاءوا من المدينة على شوق للبيت، ويشقّ عليهم أنْ يُمْنَعوه وهم على مشارف مكة، فاذهب يا رسول الله إلى ما أمرك الله، فافعله أمامهم، فلو رأوْكَ تفعل علموا أن الأمر عزيمة لا جدالَ فيه، فلما فعل الرسول أمامهم فعلوا مثله، وانتهت المشكلة وعادوا إلى المدينة.
ورحمةً بغيرة المسلمين على دينهم نزل الوحي على سيدنا رسول الله وهو في الطريق وقبل أنْ يصلوا المدينة يوضح لهم الحكمة الإلهية من عودتهم هذا العام، فقال تعالى:
{ { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الفتح: 25].
إذن: الحكمة من العودة هذا العام أن مكة كان بها كثير من المسلمين الذين أخفوْا إسلامهم، فلو دخلتم مكة عُنْوة، وحدث بينكم وبين الكفار قتال فسوف يصيب إخوانكم المسلمين، وسوف تُلحقون بهم الضرر دون علم منكم. وهكذا علموا صواب رأي رسول الله، وأنه صلى الله عليه وسلم على الحق.
هذا مثال لسداد الرأي في النساء، والتاريخ مليء بنماذج من نساء تفوقن على الرجال في الجدل وقوة وسداد الرأي لأن الخالق سبحانه لا يخلق بطريقة ميكانيكية، إنما بقدرة وحكمة فليس شرطاً أن يكون الرجال جميعاً عندهم قوة في الجدال، والنساء جميعاً عندهُنَّ ضعف في الرأي وعدم قدرة على الجدال، فالقاعدة لابدَّ أنْ يكون لها شواذ.
فإذا كانت القاعدةُ في النساء { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [الزخرف: 18] فطلاقة القدرة لله عز وجل تجعل من هذا الضعف قوة تتفوق على قوة الرجال، فنرى من النساء مَنْ كانت ملكة على قومها، مثل ملكة سبأ مثلاً التي قصَّ القرآنُ قصَّتها مع سيدنا سليمان.
فهل وصلت للمُلْك لعدم وجود الرجال؟ أبداً، بل تفوقتْ بذكائها وقوة رأيها حتى سلَم لها الرجال وقدَّموها عليهم.
وحين نقرأ قصتها في سورة النمل نجد ما يدل على هذا الذكاء وهذه الفطنة والسياسة والقدرة على الجدل، فلما وصفها الهدهد قال:
{ { إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [النمل: 23].
ولما وصلها كتاب سليمان لم تستأثر بالرأي؛ إنما شاورت أهل الرأي:
{ { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [النمل: 29] وأخذت بمبدأ الشورى { { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } [النمل: 32].
ثم تحاول حَلَّ المسألة بطريقة ودية بعيدة عن العنف وإراقة الدماء لأنها تعلم طبيعة الملوك:
{ { قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ } [النمل: 34-35].
وتأمل لباقتها وسياستها في الرد لما نكّروا لها عرشها وسألوها:
{ { أَهَكَذَا عَرْشُكِ .. } [النمل: 42]؟ { { قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ .. } [النمل: 42] ولما انتهى الأمر بإسلامها قالت: { { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [النمل: 44] فهي لم تُسلم خوفاً من سليمان، ولا إرضاء له، إنما أسلمتْ معه لله، فأنا وهو سواء في إسلام الوجه لله تعالى.
وعندنا في مصر (شجر الدر)، وكان لها رأي سديد وحنكة سياسية مكنَّتها من تجاوز الأزمة لمَّا مات زوجها فأخفتْ نبأ موته، وأدارت هي دفّة الحكم حتى لا تفُتّ في عَضُد الجيش الذي كان خارج البلاد في مهمة حربية (شجر الدر) هي التي أوصلتنا بالكعبة وهي التي كسَتْهَا، وهي امرأة.
وهذه الأمثلة ليستْ في تاريخ الإسلام فحسب، إنما أيضاً في الجاهلية وجدنا نساء بارزات لهُنَّ رأي وحكمة تفوق الرجال.
ويُروَى أن أُمامة بنت الحارث بن عمر تزوجتْ من عوف بن مُحلِّم الشيباني وأنجبتْ له بنتاً اسمها أم أُناس، وكانت جميلة، تسامع العرب بجمالها وفصاحتها، فأراد أنْ يتزوجها عمرو بن حُجْر أمير كندة، وكان سيِّداً من سادات العرب.
فقال عمرو لصاحبه ابن سنان: أرأيتَ يا بن سنان لو أنِّي خطبتُ من أيِّ حَيٍّ من العرب أيردُّونني؟ قال: نعم، أعرف مَنْ يردك، قال: مَنْ؟ قال: عوف بن مُحلِّم، قال: فهيا نذهب إليه.
فلما ذهبا ودخلا عليه قال: مرحباً بك يا عمرو، ماذا جاء بك؟ قال: أتيتُكَ خاطباً، قال له: ولكنك لستَ هنالك - يعني: لستَ كُفْؤاً لأنْ تتزوج ابنتي. سمعت امرأة عوف هذا الحوار فقالت له: يا عوف ما رجلٌ جاء إليك راكباً فلم يُطِلْ معك الكلام؟
فقال: إنه عمرو بن حجر سيد من سادات العرب، فقالت: ولماذا لم تستنزله؟ يعني: تستضيفه وتكرمه - قال: لأنه استهجنني، قالت: بماذا؟ قال: أتاني خاطباً، قالت: إنْ كان سيداً من سادات العرب وجاءك خاطباً، فمَنْ تُزوِّج بناتك إنْ لم تُزوِّجهن سادات العرب؟ الحق به واسترضه.
لحق عوفٌ بعمرو وصاحبه ابن سنان وناداه: يا عمرو أربع عليَّ ولك عندي ما تحب، فرجع عمرو وصاحبه، فقال عوف: أتيتني وأنا مُغْضَب وقلتُ لك ما قلتُ، ولكن راجعتُ نفسي، وأخذه إلى البيت.
وكان عند عوف ثلاث بنات: كبرى ووسطى وصغرى. فجاء إلى الكبرى. وقال لها: يا ابنتي إن عمرو بن حُجْر جاء يخطبك، فقالت: لا يا أبي، قال: لم؟ قالت: إنِّي امرأة فيَّ ردة - يعني في وجهي شيء يردُّ الناظر إليها - وفي خُلُقي شدة، والحارث ليس بجار لك ولا أنا بنت عمه، وأخشى إنْ حدث شيء مني أنْ يطلقني فيصبح ذلك سُبَّة لي، قال: قُومي بارك الله فيك.
ثم ذهب إلى الوسطى فقال لها ما قال لأختها، فقالت: لا يا أبي إنِّي امرأة لستُ جميلة ولا صَنَاع وأخشى أنْ يُطلِّقني فيصبح ذلك سُبَّة لي.
فقال لها: قومي بارك الله فيك.
ثم جاء بالصغرى وقال لها مثل ما قال لأختيْها، فقالت له: نعم يا أبي، فأنا الحسنة خُلُقاً، والجميلة خَلْقاً، والصَّنَاع يداً، فإنْ طلَّقني فلا باركَ الله له ولا أخلف عليه.
فخرج عوف وقال لعمرو: زوَّجتُكَ ابنتي الصغرى بهيسة، ثم أعدَّ له خباءً في بيته ليدخل فيه على عروسه، فلما دخل عليها قالت له: لقد كنتُ أحببتُك واحترمتُك، لكني الآن زهدتُ فيك، قال: لم؟ قالت: أيكون هذا عند أبي وبين إخوتي، والله لا يكون أبداً.
فقال: إذن نرحل إلى ديارنا.
وأمر صاحبه ابن سنان أنْ يسير مع الركْب، وتخلَّف هو في جانب الطريق ودخل عليها، فقالت: أهكذا كما يُفعل بالسَّبية الأخيذة، والله لا يكون أبداً إلا حين تذهب إلى حَيِّكَ وتنحر وتذبح وتُطعم الناس، وتصنع ما يصنع مثلُك لمثلي.
فلما وصل إلى حَيِّه ذبح الذبائح وأطعم الناس، ثم أراد أنْ يدخل عليها، فقالت: يا عمرو أترغب في النساء وفي العرب حَيَّانِ يقتتلان، اذهب فأصلح بينهما أولاً، ثم لا يفوتك من أهلك شيء.
خرج عمرو وأصلح بين الحيَّيْن ودفع دِيَة القتلى من الجانبين ثلاثة آلاف بعير من ماله، ثم عاد إلى زوجته فلما علمتْ بما فعل قالت له: الآن يا حارث. هذه أمثلة من النساء اللاتي كان لهُنَّ عقل راجح ورأي سديد وقدرة على الجدل.
ولما أراد عمر خطبة أم أُناس بنت عوف دعا امرأة من كندة اسمها عصام، وقال لها: اذهبي حتى تعلمي لي عِلْمَ ابنة عوف، فذهبتْ إلى بيت عوف وقابلتْها أمامة، وعرفتْ منها سبب مجيئها، جعلتْ أُمامة لبنتها خيمة وقالت: اجلسي فيها وستدخل عليك عصام فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه من وجه وخَلْق، وناطقيها فيما استنطقتك به، لأنها جاءت لكذا وكذا.
دخلتْ عصام على أُم أناس فوجدتها كما أرادتْ، لم تُخْفِ عنها شيئاً. فقالت: تَرَكَ الخداع من كَشَف القناع، فصارت مثلاً عند العرب حتى الآن.
فلما انتهت إلى عمرو قال لها: ما وراءك يا عصام؟ قالت: أبدى المخض عن الزبد - يعني: الرحلة جاءتْ بالنتيجة المرضية - فقال لها: ناطقيني، قالت: أخبرك حقاً وصدقاً، ثم أخذتْ تصف له أم أُناس (من ساسها لراسها) ونكتفي هنا بوصف ما لا يحرم.
قالت: رأيتُ جبهة كالمرآة الصقيلة، يُزينها شعر كأذناب الخيل المضفورة، إن مشطته خِلْتَه السلاسل، وإنْ أرسلتْهُ قلتَ: عناقيد كَرْم جَلاَها الوابل، تحته حاجبان مُتقوِّسان كأنما خُطَّا بقلم أو سُوِّدا بحمم، قد تقوَّسا على عيني الظبية العبهرة التي لم يرعها قانص، ولم يُفزعها قسورة.
بينهما أنف كحدِّ السيف المصقول لم يخنس به قِصَر، ولم يُمعن به طول، حَلَّقت به وجنتان كالأرجوان في بياض محض كالجُمان، فيه فم كالخاتم لذيذ المبتسم، ذو ثنايا غُرّ، وفيه لسان مُليء بياناً، يزينه شفتان حمراوان كأنهما الورد، يجلبان ريقاً كالشهد، وتحته عنق كإبريق الفضة اتصل به عضدان ممتلئان .. إلى آخر ما قالتْ عصام في الوصف.
وقبل أنْ تغادر أم أُناس بيت أبيها إلى بيت زوجها لم يَفُتْ أمامة بنت الحارث أنْ توصي ابنتها هذه الوصية الغالية التي تضمن لها السعادة الزوجية، إنْ هي التزمت بها، واسمع أمامة تقول:
أي بُنيَّة .. إن الوصية لو تُركَتْ لفضل أدب تُركت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنتْ عن الزوج لِغَنى أبويها وشدَّة حاجتهما إليك كنتِ أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خُلِقْنَ، ولهُنَّ خُلِق الرجال.
أي بنية .. إنك مفارقة الجو الذي منه خرجتِ، وخلفتِ العُشَّ الذي فيه درجتْ، إلى وكْر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فاحفظي له خصالاً عشراً يكُنْ لكِ ذُخراً:
أما الأولى والثانية: فالرضا له بالقناعة، وحُسْن السمع له والطاعة. وأما الثالثة والرابعة: فالتفقُّد لمواقع عينيه وأنفه، فلا تقع عينُه منكِ على قبيح. ولا يشمُّ أنفه منكِ إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإنَّ تواتُرَ الجوع مَلْهبة، وتنغيص النوم مَغْضبة. وأما السابعة والثامنة: فالإحراز لماله، والإرعاء على حَشمه وعياله، ومِلاك الأمر في المال حُسْن التدبير وفي العيال حُسْن التقدير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تَعصِينَّ له أمراً، ولا تُفشِينَّ له سراً، فإنك إنْ خالفت أمره أوغرتِ صدره، وإن أفشيتِ سِرَّه لم تأمني غدره.
ثم إياك والفرح بين يديه إنْ كان مُهتماً، والكآبة بين يديه إنْ كان فَرحاً .. هذه نماذج من النساء صاحبات العقل الراجح والتفكير السديد. ولو أخذت الزوجاتُ بهذه النصيحة لكفَتْنا شراً كثيراً من الخلافات الزوجية التي نعاني منها اليوم.