التفاسير

< >
عرض

بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ
٢٩
وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ
٣٠
-الزخرف

خواطر محمد متولي الشعراوي

قلنا: إن المنهج ينطمس وينصرف الناسُ عنه بمرور الزمن حتى تدعوَ الحاجةُ لنبي جديد يُعيد الناس إلى الجادَّة، لأن الحق سبحانه خلق في النفس البشرية مناعة طبيعية لأنه خليفة الله في أرضه، فهو الذي سيعمر هذه الأرض، فلا بدَّ أن يُوفر له أسباب الاستقامة والحركة الإيجابية التي يعمر بها الأرض.
لذلك نرى الإنسان السَّوي حينما يفعل المعصية حين غفلة منه عن منهج ربه يُسرع بالتوبة والندم، لأن الاستقامة وبذرة الإيمان في ذاته، فإذا أصيب المرْءُ في ذاته وفقد هذه المناعة تأتي المناعة من المجتمع، المجتمع الواعي المدرك لدوره الجماعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فقد المجتمع هو الآخر هذه المناعةَ لم يَبْق إلا أن تتدخَّل السماء برسول جديد ومنهج جديد.
إذن: حدث الانصرافُ عن المنهج بعد إبراهيم وإسماعيل، فكانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فسيدنا إبراهيم جعل كلمة التوحيد باقية في عقبه { لَعَلَّهُمْ } [الزخرف: 28] أي: ذريته من بعده { يَرْجِعُونَ } [الزخرف: 28] أي: إلى الله.
لكن لم يحدث، فقال سبحانه: { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ } [الزخرف: 29] أي: كفار مكة { وَآبَآءَهُمْ } [الزخرف: 29] بالجاه والسلطان والنعيم والأمن
{ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67] وجعل لهم منزلة وقداسة بين العرب لمكانتهم من البيت، وظلَّتْ لهم هذه المنزلة { حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } [الزخرف: 29] أي: القرآن { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } [الزخرف: 29] أي: محمد صلى الله عليه وسلم و { مُّبِينٌ } [الزخرف: 29] يعني: يظهر الحقَّ على يديه وفي كل شيء فيه.
لكن هل آمنوا بهذا الحق، وصدَّقوا بهذا الرسول؟ لا { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } [الزخرف: 30] أي: أن القرآن سحرٌ يَسحر مَن استمعه، وفي موضع آخر قالوا عن الرسول أنه ساحر.
وقلنا: إن الرد على هذا الافتراء سهلٌ، فلو كان القرآن سحراً ولو كان محمداً ساحراً سحر المؤمنين به، فلماذا لم يسحركم أنتم أيضاً، وتنتهي المسألة؟ إذن: وجودكم على الكفر دليلُ صدق محمد، وأنه نبي ليس بساحر.
ولما لم تفلح هذه الشبهة قالوا:
{ { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [النحل: 103] أي: أن رسول الله يختلف إلى رجل فارسي يُعلِّمه القرآن، فرد الله عليهم { { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [النحل: 103].
فقالوا عنه صلى الله عليه وسلم: مجنون، فردَّ الله عليهم:
{ { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 2-4] والمجنون لا يكون صاحب خُلْق عظيم، لأن الخُلقَ يضبط سلوك صاحبه.
فلما أبطل الحق سبحانه دعاواهم وافتراءاتهم وردّ عليهم بما يُظهر غباءهم قالوا:
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ... }.