التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ
٦٣
-الزخرف

خواطر محمد متولي الشعراوي

{ بِٱلْبَيِّنَاتِ } [الزخرف: 63] الآيات والمعجزات { قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ } [الزخرف: 63] يعني: الإنجيل وما فيه من أحكام { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } [الزخرف: 63] والذي اختلفوا فيه قبل عيسى أو بعد أن انتقل عيسى، فقالوا عنه: ابن الله. وقالوا: ثالث ثلاثة. واليهود قالوا أكثر من هذا.
الحق سبحانه يقول: أنا أعطيتُه الحكمة يعني: الإنجيل. والحكمة تعني: وضع الشيء في موضعه، وعيسى عليه السلام جاء بعد اليهودية، وكانت اليهودية مسرفة في المادية ومنها ينطلقون في كل شيء.
وقلنا: إن هذه المادية هي التي دعتهم إلى أنْ يطلبوا من رسولهم رؤية الله
{ { فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: 153] فلا مجالَ للغيبيات في حياتهم، حتى في طعامهم وشرابهم لما أنزل الله عليهم المنّ والسَّلْوى لم يقتنعوا به، وأرادوا طعاماً يصنعونه بأيديهم، فقال لهم: { { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [البقرة: 61].
لذلك حينما تقرأ التوراة لا تجد فيها ذكراً لليوم الآخر وكذلك التلمود، مع أن اليوم الآخر والإيمان به ركن من أركان الإيمان، لكنهم لماديتهم لا يُصدقون به؛ لذلك لما جاءت رسالة عيسى عليه السلام جاءت كلها روحانيات لتَجْبُرَ النقص الروحي في اليهودية ولتستوي كفّة الاعتدال في الخَلْق.
لذلك لا نجد في الإنجيل شيئاً عن تقنينات المجتمع، فإنْ أرادوا شيئاً من ذلك أخذوه من التوراة، وقد اضطروا - مع ما بينهم من عداء - إلى أنْ يجمعوا التوراة والإنجيل في كتاب واحد وأسْموه العهد القديم؛ لأن عيسى عليه السلام سُئِلَ مرة عن الميراث فقال: أنا لم أُبعث مُورِّثاً.
إذن: لما طغَتْ المادية قابلها بروحانية، ليحدثَ الاعتدالُ في حركة الحياة لأن الروحانيةَ هي التي تدفع الحركة المادية؛ لذلك جاءت رسالة عيسى تُربِّي المواجيد الدينية وترتفع بالروحانيات.
فالحياة تحتاج للجانبين معاً الحركة المادية التي تتفاعل مع الكون والطبيعة، ففي الكون أشياء تعطيك دون أنْ تتفاعل معها كالشمس والقمر والنجوم والماء والهواء، فأنت فقط مُستقبل، وأشياء أخرى لا تعطيك إلا حين تتفاعل معها، كالأرض تزرعها وتحرثها وترعاها فتعطيك الزرع.
ولأن اليهودية بالغتْ في المادية بالغتْ كذلك المسيحية في الروحانية، ومن أقوال السيد المسيح عليه السلام أنه لما رآهم يرجمون امرأة قال: "مَنْ كان منكم بلا خطيئة فليرجمها"، وقال: من ضربك على خَدِّك الأيمن أعطه خدك الأيسر.
وهذه رهبانية لم يكتبها الله عليهم، إنما تطوعوا بها، وآفة ذلك أنهم ما رعوْهَا حَقَّ رعايتها، يقول تعالى:
{ { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 27].
إذن: الذي أُخذ عليهم ليس الرهبانية، إنما أُخذ عليهم أنهم ما رَعوْهَا حَقَّ رعايتها، وما دامت اليهودية بالغتْ في المادية، وجاءت المسيحية روحانية صِرفة ليس فيها شيء قوانين تنظيم المجتمع، كان لا بدَّ من إصلاح الحالتين، واحتاجت حركة الحياة لدين جديد ورسالة جديدة تراعي الجانبين الروحاني والمادي، فكانت هي رسالة الإسلام.
وتأمل كيف ضرب القرآن مثلاً لمحمد وأمته، مرة في التوراة، ومرة في الإنجيل:
{ { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } [الفتح: 29].
هكذا جمعتْ أمة الإسلام بين الروح والمادة، فالمسلم لم يُطبع على الشدة، ولم يُطبع على الرحمة، بل يُشكِّله الموقف، لكن أشداء على مَنْ؟ ورحماءُ لمنْ؟
وتأمل دقة التعبير القرآني في إعطاء مَثَل لأمة الإسلام في التوراة وفي الإنجيل، فلأن اليهود كانوا قوماً ماديين أعطاهم الجانب الروحي وفي الإنجيل، فلأن اليهود كانوا قوماً ماديين أعطاهم الجانب الروحي في الإسلام:
{ { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } [الفتح: 29].
أما في الإنجيل فذكر الجانب المادي في الإسلام:
{ { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } [الفتح: 29].
فكأن الإسلام بجمعه بين المادية والروحية هو المنهج المناسب الصالح لقيادة حركة الحياة، فالروحية لا تستقيمُ أبداً بدون المادية، فالعابد مثلاً لا يقيم عبادته إلا برغيف يقيم أَوْده وثوب يستر عورته، فمن أين يأتي بالرغيف؟ ومن أين يأتي بالثوب؟ الرغيف يحتاج إلى فلاح يزرع ويحصد، ويحتاج إلى مطحن، وإلى مخبز وعمال .. إلخ وكذلك الثوب وكلها حركة مادية.
لذلك جعل الحق سبحانه القرآن مهيمناً على الكتب السابقة
{ { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [المائدة: 48] وقال: { { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف: 4] أي: يعلو على كُلِّ الكتب السماوية.
وقوله تعالى: { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } [الزخرف: 63] مثل الأشياء المحرمة على اليهود، والتي أحلَّها الله لهم مثل الإبل، كما قال تعالى:
{ { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [آل عمران: 50] وقال: { { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } [الأنعام: 146].