التفاسير

< >
عرض

وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٧٢
-الزخرف

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله { أُورِثْتُمُوهَا } [الزخرف: 72] أخذتموها إرثاً، والإرث يكون بعد موت صاحبه كالميت يموت ويترك ملكه وتركته لمن بعده من أولاده وأقاربه، إذن: هؤلاء يملكون التركة بدون عقد وبدون ثمن، لكن ورثوا مَنْ؟
يقول تعالى في آية أخرى:
{ { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ * ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون: 10-11] قالوا: الحق سبحانه وتعالى حين خلق الخَلْق أحصاه عدداً وكتب في الميقات الأزلي كل شيء، وقد صحَّ أن القلم قد جَفَّ على ذلك.
ولما سُئِل المأمون: ما شُغل ربك الآن وقد صَحَّ أن القلم قد جَفَّ؟ قال: أمور يُبديها ولا يبتديها، يرفع أقواماً، ويخفض آخرين.
قالوا في مسألة الإرث هذه أن المؤمنين في الجنة ورثوا الكافرين وأخذوا أماكنهم في الجنة، لأن الحق سبحانه جعل لكل إنسان مكاناً في الجنة ومكاناً في النار، حتى إنْ جاء كُلُّ الخَلْق مؤمنين طائعين كانت لهم أماكن تكفيهم في الجنة، وكذلك إنْ كفروا جميعاً وُجدتْ لهم أماكن في النار.
فساعة يدخل أهلُ النار النارَ تخلُو أماكنهم في الجنة فيجعلها الحق سبحانه من حَقِّ المؤمنين ويُورثهم إياها تفضُّلاً منه وتَكَرُّماً أولاً، ثم جزاء تفوقهم في الإيمان والعمل الصالح في الدنيا.
لذلك قال: { أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الزخرف: 72] فالعمل الصالح إذن هو المعوّل الأساس في دخول الجنة، وفي إرث أماكن أهل النار.
ونلاحظ في مسألة الإرث أنه ينقل ملكية الشيء من المورِّث إلى وارثه، ويكون هذا الإرث حلالاً للوارث بصرف النظر عن مصدره من أين، من حلال أو من حرام، فلو أن رجلاً كسب مالاً من حرام فيتحمَّل هو وزره وحده ويُطوَّق به يوم القيامة.
فإن انتقل إلى الوارث كان بالنسبة له حلالاً لا شيء عليه فيه، لأن المسؤولية هنا لا تتعدى، وقد حسم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسألة لما قال:
"شرّكم مَنْ ماتَ بشرٍّ، وتركَ عياله بخير" .
لذلك الوارث ليس له أنْ يسأل عن مصدر هذا المال الذي ورثه، فهو مثل الزوجة لا تسأل زوجها عن مصدر النفقة التي يدفعها لها، ومثل الولد دون البلوغ ليس له أنْ يسألَ والده من أين يأتي بالمال الذي ينفقه عليه.
لكن للولد ذلك لما يبلغ ويصبح قادراً على الكسب، فله أنْ يسأل لأنه أصبح قادراً على الكسب من الحلال بنفسه.
ذلك قياساً على قوله تعالى:
{ { وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [النور: 59] فبعد البلوغ لم يبْق له حَقٌّ على أبيه، بل انتقل الحقُّ منه لأبيه إلا أنْ يتفضل الأب.
وقلنا: إن قضية تفضُّل الأب عندنا أثَّرتْ بالسلب على اقتصادياتنا، لأن حنان الآباء الزائد وتدليلَ الأولاد جعل فترة الطفولة تمتدُّ في شبابنا إلى سِنِّ الخامسة والعشرين بل والثلاثين، والولد فيها عَالةٌ على أبيه يريد منه كل شيء، حتى الشقة والجهاز والزواج، ركن الشباب عندنا إلى الراحة وألقوْا بالمسئولية على الآباء، وهذا يضيع علينا طاقات كثيرة لا تُستغل.
لذلك تفوَّق علينا الغرب في هذه المسألة، ففي مثل هذه السِّنِّ يخرج الشابُّ عندهم إلى الحياة وإلى ساحة العمل، ويتحمَّل مسؤوليته بنفسه، ويستقل كليةً عن الأسرة، صحيح أنهم وقعوا في خطأ في هذا الموضوع أنهم سَوَّوْا بين الفتى والفتاة، لأن الفتاة لها وَضْع آخر، لذلك هنا نحتضنها إلى أنْ تتزوج، فلا تخرج من بيت أبيها إلا إلى بيت زوجها.