التفاسير

< >
عرض

أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
٣٧
-الدخان

خواطر محمد متولي الشعراوي

الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يقارن بين هؤلاء وبين مَنْ سبقهم من الأمم المُكذِّبة، ويقول لهم: لستُم بدْعاً في ذلك ولستم بمنجىً عن هذا المصير الذي حاقَ بمَنْ كذَّب قبلكم.
{ أَهُمْ خَيْرٌ .. } [الدخان: 37] يعني: بنو إسرائيل { أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } [الدخان: 37] تبع الحميري من ملوك اليمن، واليمن قديماً كانت تُسمى الأرض الخضراء أو اليمن السعيد لكثرة خيراته.
وكان تُبع رجلاً صالحاً لكن خالفه قومه وكذَّبوه، فأخذهم الله أَخْذَ عزيز مقتدر بعد أنْ دمَّر السد الذي كان يُوفِّر لهم الماء للزراعة فبتدمير السدِّ دُمرت حياتهم كلها.
وهذه القصة ذكَّرتني بأيام كنا في الجزائر، وهناك بنوْا سداً يحجز ماء المطر، وسَمَّوه سدّ مأرب، ولما ذهبنا مع الرئيس لافتتاحه قام أحدهم خطيباً، وقال فيما قال: والآن بُني السد، وسوف تروون أرضكم وزراعاتكم، أمطرتْ السماء أم لم تمطر.
فاستوقفني هذا الكلام ورأيتُ فيه مخالفةً، لا للدين فحسْب بل للعقل وللمنطق، فقلت لوزير خارجيتهم: قُلْ للسيد الخطيب: لو لم تمطر السماء ماذا يحجز هو أو السد؟
وقوله: { إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [الدخان: 37] كلمة مجرم لا تُقال إلا لمَنْ بالغ في المعصية وارتكاب الآثام مبالغة عظيمة. ومجرم يعني: يأتي بالجُرْم الفاحش. هنا جاء بكلام على وجه العموم { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ } [الدخان: 37].
وفي موضع آخر فصَّل الكلام في هذا الإهلاك، فقال:
{ { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا .. } [العنكبوت: 40].
وفي سورة الفجر:
{ { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ * وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } [الفجر: 6-10].
هذه كلها أمم كان لها حضارات، لكن لم تُمكِّنهم حضاراتهم أنْ يحتفظوا بها، وأن يمنعوها من الزوال بحيث تنتهي كأنْ لم تكن. الحق سبحانه وتعالى كان يأخذ الأمم المكذِّبة أخْذَ عزيز مقتدر، لأن الرسل السابقين لم يُطلَب منهم القتال، فقط تبليغ رسالات الله.
وكانت السماء هي التي تتولَّى تأديب المكذِّبين والانتقام منهم، ولم يُؤذَن في القتال إلا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المأمون على أنْ يسود البشر برأيه المشْبع بمنهج الله، لذلك لم يأت بعده رسول، وكونه لم يأتِ بعده رسول دليلٌ على شهادة الخير لأمته، وسيظل فيها هذا الخير إلى قيام الساعة.