التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ
٣
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
٤
أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
٥
-الدخان

خواطر محمد متولي الشعراوي

مسألة الإنزال تعني إنزال شيء من أعلى إلى أسفل، وتقتضي: مُنزِل، ومُنزَل، ومُنزَل إليه، فالذي أنزل هو الله، وما دام أنْ المنزِلَ هو الله فالإنزال من جهة العلو بصرف النظر عن المكانية، لأنه قال عن الحديد: { { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25] والحديد في باطن الأرض، والإنزال يُشْعِر بعلُوّ المنزل.
ثم الشيء المنزَل هو القرآن الكريم { أَنزَلْنَاهُ } [الدخان: 3] إلىَ مَنْ أنزل إلى الناس { فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [الدخان: 3] هي ليلة القدر يعني: زمنَ النزول العام للقرآن.
وقال { فِي لَيْلَةٍ } [الدخان: 3] لأن الليل محل السكون والهدوء، حيث لا لَغَطَ ولا ضوضاء ولا صَخَب يُمكن أنْ يُشوّش على المنزَل، كذلك يكون الإنسان ساكناً غيرَ منشغل الجوارح بشيء.
إذن: في الليل يتوفر للعقل كُلُّ مُقوِّمات الانتباه والاستيعاب وصفاء النفس، لذلك اقرأ في أول سورة المزمل:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [المزمل: 1-6].
إذن: نزل القرآن ليلاً لأنه أنسبُ وقت لنزوله، ونزل على قلب رسول الله بمكة، فهي ليلة مكة لا غيرها، ومكة وسط العالم ومركزه، لذلك قال تعالى:
{ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143].
البعض قال عن هذه الليلة: هي ليلة القدر لقوله تعالى:
{ { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1] وآخرون قالوا: بل هي ليلة النصف من شعبان، والمسألة هذه تحتاج منا إلى تمحيص لأنه نزل في واحدة منها.
نقول: القرآن قبل أنْ ينزل ويباشر مهمته في الوجود كان في أيِّ مكان؟ كان في اللوح المحفوظ
{ { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 77-79] وقال: { { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف: 4].
فالنزول الأول للقرآن كان جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، لكن هل نزل ما سُجِّل في اللوح المحفوظ أو نسخة منه؟ قالوا: بل نسخة منه بعد استنساخه.
ثم بعد ذلك نزل مُنجَّماً حسْب الأحوال والأحداث، نزل به الملَكُ جبريل على قلب سيدنا رسول الله، كل نَجْم منه في مناسبة.
إذن: عندنا مراحل ثلاث لنزول القرآن: الأولى استنساخه من اللوح المحفوظ، وهذا له زمن، ثم نزوله جملةً واحدة إلى سماء الدنيا وله زمن، ثم نزوله مُنجماً حسْب الأحوال، وهذا النزول له زمن ممتدّ على مدى الأحداث استغرق عدة سنوات.
ومن الممكن أنْ نجد في هذه المراحل الثلاث مخرجاً من إشكال: أهو في ليلة القدر أم في النصف من شعبان؟ ولا مانع من اشتراك الليلتين في هذا الفضل في أيِّ مرحلة من مراحله.
ثم إن ليلة النصف من شعبان لها شرفها وكرامتها الخاصة بها، وهي مسألة تحويل القبلة التي هي متجه المسلمين جميعاً في كلِّ بقاع الأرض، ثم إن الاتجاه إلى بيت المقدس كان له زمن وله حكمة، ثم التحول إلى الكعبة كان أيضاً له زمن وله حكمة.
فليستْ المقارنة هنا بين حَقٍّ وباطل، بل الفرق بين أمرين حكيمين، لكن هذا له زمن وهذا له زمن، لذلك الحق سبحانه لم يشأ أنْ يجعل تحويل القبلة في فرض من أوله، إنما في أثناء الفرض قسمه الأمر بالتحويل قسمين، فصلى نصف الصلاة الأولى إلى بيت المقدس، ونصفها الآخر إلى الكعبة.
وهذا إنْ دَلَّ فإنما يدلّ على أن بيتَ المقدس داخلٌ في مقدسات المسلمين كالكعبة تماماً، وحادثة الإسراء من بيت المقدس تؤكد ذلك.
إذن: شاء الله تعالى أنْ يكون متجه الصلاة مرة إلى بيت المقدس، ومرة إلى الكعبة لحكمة في كليهما. الأولى: أنْ يكون بيتُ المقدس من مقدَّسات المسلمين. الثانية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أُلفة بقبلة إبراهيم عليه السلام.
لذلك قال تعالى:
{ { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ .. } [البقرة: 144].
والصلاة فُرضَتْ على رسول الله بعد معراجه إلى السماء من بيت المقدس، والصلاة هذه بها متجه القبلة، فالقبلة لابدّ أنْ تأخذَ الاثنين مبدأ التشريعي ومبدأ الاستبقائي، وهذا جعله الله فتنةً للمسلمين ولغير المسلمين، لأن القِبْلَة لما كانت إلى بيت المقدس قالوا: ما الذي حوَّله عن قبلة إبراهيم إلى قبلة داود وسليمان، وقلنا: لكي تدخل في مقدسات الإسلام ولا يستبدوا بها.
واليهود التقطوا هذه المسألة وجعلوها شبهة وقالوا: إذا كان محمد رافضاً لديننا فكيف يتبع قبلتنا؟ إذن: كانت فتنةً للطرفين لكي يلتزم الإنسانُ التوجيهات الإلهية بدون تدخُّل للعقل فيها.
وقالوا في الليلة المباركة: إنها ليلة البراءة وليلة الصّك وليلة الرحمة، ليلة البراءة مأخوذة من البراءة التي كان يُعطيها العامل على الزكاة للمموِّل حين يعطيه حَقَّ الله في المال وهو الزكاة، فيعطيه العامل صَك البراءة الذي يدلّ على أدائه للزكاة وبراءة ذمته منها، والصَّك بنفس المعنى.
وليلة الرحمة، قالوا: رحمة برسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً، لأن نفسه كانت تتُوق للتوجُّه نحو قِبْلة إبراهيم.
وقوله سبحانه: { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [الدخان: 3] بعد أنْ ذكر الإنزال ذكر الإنذار، فالإنزال للإنذار، لأن القاعدةَ الشرعية أنَّ درْءَ المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة فذكر (منذرين) قبل مبشِّرين.
وسبق أنْ قلنا: هَبْ أن واحداً يرمي لك تفاحة، وفي ذات الوقت آخر يرميك بحجر، فبأيِّهما تنشغل؟ لا شكَّ أنك تحرص أولاً على دَفْع الحجر عنك وتُقدِّمه على استقبال التفاحة.
كذلك الحال في هذا الأسلوب القرآني { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [الدخان: 3] كلمة (كُنَّا) دلتْ على الماضي مع أن الإنذار مستمر ولا يزال، لأن الحق سبحانه لا يحكمه زمن معين، لأنه سبحانه خالق الزمن، وما دام الزمن من خَلْق الله فالمخلوق لا يتحكم في الخالق.
فالماضي والحاضر والمستقبل في حقنا نحن البشر، أمَّا في حَقِّ الله تعالى فالزمن كله سواء، فحين تقرأ مثلاً
{ { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [الأحزاب: 50] تقول: كان ولا يزال وسيكون في المستقبل، لأنه ما دام كان في الأزل، وهو سبحانه لا يعتريه تغيير فهو من الأزل إلى الأبد غفور رحيم.
وقوله تعالى: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [الدخان: 4] أي: في هذه الليلة { يُفْرَقُ } [الدخان: 4] بمعنى يُوضَّح ويُفصَّل ويُبيَّن، والفرق هنا ليس بين حق وباطل، إنما بين أمرين كلاهما حق، وله حكمة في زمنه.
وتأمل وصف الأمر ذاته بأنه (حكيم) لأنه أمر الله { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ } [الدخان: 5] يعني: ليس هناك حكمة ترتقي إلى هذا الأمر الذي يأتي من قِبَل الحق سبحانه { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [الدخان: 5] يعني: لم نترك خَلْقنا هملاً إنما خلقناهم وأرسلْنا لهم مَنْ يأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم ويدلُّهم على الهدى ويُبيِّن لهم.
فالحقّ أول ما خلق الخَلْق أرسل الرسل لهدايتهم، لذلك كان آدم عليه السلام وهو أول البشر رسولاً، لأن الخالق سبحانه خلق الإنسانَ، لماذا؟
لأنه خلقه لعمارة الأرض
{ { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا .. } [هود: 61] يعني: طلب منكم عمارتها، والعمارة تقتضي الصلاح وتمنع الفساد ولا أقلَّ من أنْ نترك الصالح على صلاحه إذا لم نَزد في الصلاح.
وقد أوضحنا هذه المسألة بالبئر في الصحراء. وقلنا: إذا لم تَرْتَق به بأنْ تبني حوله سوراً وحافَّة تحميه من زَحْف التراب عليه، أو تجعل عليه آلة لرفْع الماء، فلا أقلَّ من أنْ تتركه على حاله ولا تهدمه.
كذلك حالُ الإنسان في عمارة الأرض عليه أنْ يُعمِلَ عقله في البدهيات ليصل منها إلى نظريات ترتقي بها حياته، عندنا مثلاً الصوف والوبر والشعر، لكلٍّ منها صفاته الخاصة وما يصلح له، لذلك قال القرآن
{ { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } [النحل: 80].
ومعلوم أن الوبر للجمال، والصوف للغنم، والشعر للماعز، ولكل نوع منها خصائصُ يستخدمه الإنسان في ثيابه ومسكنه، وهذا من عمارة الأرض، حتى لو نظرنا إلى القواعد الهندسية والنظريات نجدها تعتمد في بدايتها على أمر بديهي موجود في الكون.
إذن: كلُّ ارتقاء في الكون أتى من أمر بديهي موهوب من الله، وعمل العقول في البدهيات من عمارة الأرض.
لذلك عندما تتأمل أسلوبَ القرآن في مخاطبة الناس تجده يبدأ بأمور بسيطة بعيدة عن التعقيد الفكري، فيُحدِّثهم أولاً عن أصل المنهج وما به تستقيم حياتهم وتنسجم حركاتهم في الحياة، ويُحدِّث العقول بما يناسب ارتقاءها الفكري.
فإذا ما نضج الفكر الإنساني وتمكّن المنهج في الناس سلوكاً وتطبيقاً بدأ يُحدِّثهم عن نظريات عقلية ويقول لهم: إن الأرض كروية، وأنها تدور حول الشمس لأن العقول أصبح عندها استعداد للبحث والتقصِّي.
انظر مثلاً إلى الطرق، وكيف كانت بدائية، مجرد مدقّ في الصحراء يسع البعير الواحد؟ وكيف تطورتْ الآن وما توفّر لها من أسباب الراحة والأمان والسرعة والسلامة وغيرها، إنه العقل حينما يعمل ليرتقي.
ألم يتعلّم الإنسان من الغراب كيف يدفن الموتى؟ ألم نتعلم من الكلاب ونستخدمها الآن رغم التطور العلمي في تقصِّي الأثر والتعرف على المجرمين باستخدام حاسة الشم؟ إذن: أخذنا الأمور الفطرية التي وهبها الله لنا وبنيْنَا عليها، وطوَّرناها لعمارة الأرض.
وعمارة الأرض لا تقوم إلا إذا استقام المنهجُ أولاً، فهو أساس الارتقاء وأساس الإصلاح، لأن الخالق سبحانه لما خلق الخَلْق جعل له منهجاً يحكمه ويُنظم حركته في الحياة بافعل كذا ولا تفعل كذا.
فإن استقام على منهج ربه وخالقه استقامتْ حياته، وإنْ شذَّ وانحرف ظهرتْ عورة المجتمع وبدَتْ مظاهر الفساد تدبْ في أوصاله.
وسبق أنْ مثَّلنا ذلك (بالكتالوج) الذي يضعه الصانع لحماية صنعته وصيانتها، كذلك أنت إنْ سِرْتَ على منهج خالقك لا يصيبك عَطَبٌ أبداً. ومن هنا كانت مهمة الرسل، للبيان وللتذكير بالمنهج (افعل كذا) و (لا تفعل كذا)، حتى سيدنا آدم ماذا حدث له لما خالف المنهج؟ ربنا قال له: كل من الجنة كما شئت إلا هذه الشجرة فأكلا منها، ماذا حدث؟
لما خالف حدث له العطب، وظهرت عورته لمَّا أكل من الشجرة واضطر لما لم يعهده من قبل من خروج الريح والغائط واضطراب البطن، وهذه أمور لم يكن يشعر بها قبل المخالفة.
وقوله سبحانه: { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [الدخان: 5] يعني: مرسلين رسلاً إلى مَنِ استخلفناه في الأرض حتى تسْلَم حركةُ الحياة من العطب، وحتى يسلَمَ المجتمعُ من الشرور، ويتساند ولا يتعارض.