التفاسير

< >
عرض

وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١٣
-الجاثية

خواطر محمد متولي الشعراوي

الحق سبحانه وتعالى ينقلنا من تسخير البحر إلى تسخير السماوات والأرض، فهي مسخَّرة للإنسان منذ خلقها الله، لكن لم يعلم الإنسان وجوه هذا التسخير مرة واحدة، إنما يعلمها بمرور الزمن وتطوُّر العلوم.
كما قال سبحانه:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ .. } [فصلت: 53].
فأنت مثلاً حين تقرأ قوله تعالى في الفُلْك
{ { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [الرحمن: 24] لا بد أنْ تُعمِلَ العقل وتسأل كما سألنا: متى عرف الناس السفن ذات الأدوار؟ فكلمة المنشآت تدل على البناء، وكالأعلام يعني: عالية ومرتفعة كالجبال، قالوا: عرف الإنسانُ السفنَ ذات الأدوار في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت قبل ذلك عبارةً عن سطح لا شيءَ عليه.
فمَنْ أخبر سيدنا رسول الله بأن السفن سيكون منها منشآت كالأعلام، كذلك في قوله تعالى:
{ { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [الزخرف: 33].
والمعارج جمع معراج، وهو بلغة اليوم (الأسنسير) والحضارة الحديثة لم تعرف (الأسنسير) إلا في أواخر القرن العشرين، إذن: هذه مظاهر لإعجاز القرآن وصِدْقه وصِدْق المبلِّغ للقرآن، فصدق اللهُ وصدق رسوله.
وهذا يدلُّ على أن هذه المستحدثات موجودة في علمه تعالى ولها (ماكيت) قبل أنْ يصل إليها فكر البشر، والله يظهرها لعباده حسْب حاجتهم ومع مرور الزمن وتطور العلوم، وهذا معنى
{ { سَنُرِيهِمْ .. } [فصلت: 53].
قوله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ .. } [الجاثية: 13] قلنا: كلٌّ من السماوات والأرض ظَرْف لأشياء كثيرة، منها ما نعلمه، ومنها ما لم نتوصل إليه حتى الآن، فالسماء ننظر إليها من جهة العلو، ولا نرى من مخلوقات الله فيها إلا الشمس والقمر والنجوم والسحاب، وهذا كله في السماء الدنيا.
لذلك قال سبحانه:
{ { وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ .. } [فصلت: 12] أما السماوات السبع فشيء آخر لا نعرف عنه شيئاً، ويكفي أنْ تعرف أن بينك وبين الشمس ثمانيَ دقائق ضوئية، وهناك مخلوقات بينك وبينها مائة سنة ضوئية اضربها في 365 يوماً في 24 ساعة في 60 دقيقة في سرعة الضوء.
إذن: فوقك عالم آخر فوق ما يتصوَّره عقلك، لذلك قال تعالى:
{ { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47] بأيد، أي بقوة.
فيكفي أنْ تتأمل في مجال تسخير الكون لك أنْ تنظر إلى الشمس، وكيف سخَّرها الخالق لك فتعطيك النور والدفء والطاقة والأشعة المختلفة دون أنْ تبذل في سبيل ذلك شيئاً، ودون صيانة، ودون وقود، ودون أنْ تصلَ إليها أصلاً.
فهي تعمل في خدمتك منذ خلقها الله وإلى أنْ تقوم الساعة لا تحتاج منك إلى شيء، فقط عليك أنْ تستفيد منها، وأنْ تفكر في طبيعتها وكيفية استغلالها فيما ينفعك، ومثلها القمر يعطيك النور الحالم الهادئ، وبه نهتدي في ظلمة الليل:
{ { وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [النحل: 16].
والشمس والقمر خلقهما الله على هيئة الحركة، فهما متحركان منذ خلقهما الله وإلى قيام الساعة، يتحركان دون وقود وبلا طاقة بقانون العطالة كما قلنا، وهو أنْ يظلَّ المتحركُ متحركاً ما لم تُسكنه، ويظل الساكن ساكناً ما لم تحركه. وهذه الحركة قلنا بحساب دقيق محكم
{ { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [الرحمن: 5].
والأرض كذلك ظرف لأشياء كثيرة وأجناس متعددة، ففيها الجماد وهو أدنى الأجناس، فإذا أضيفَ إليه النمو كان النبات، فإذا أضيف إليه الإحساسُ كان الحيوان، فإذا أضيف إليه العقل كان الإنسان وهو أعلى هذه الأجناس وأكرمها على الله.
لذلك سخَّر الله له كلّ هذه الأجناس وجعلها في خدمته، وجعله سيداً عليها وخليفة له في أرضه.
والحق سبحانه عندما تكلم عن الجماد قال:
{ { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر: 27] فقدَّم الثمار وهي من النبات قدَّمها على الجماد، لأننا لا نأكل الجماد وإنما نأكل النبات والثمار هي محصلته وما يهمني منه، وهي من مُقوِّمات الحياة.
ثم تكلم عن الجبال وهي مصدر الخيرات والثروات والمعادن والأحجار الكريمة؛ لذلك قال عنها في آية أخرى:
{ { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا .. } [فصلت: 10] أي: في الجبال.
وسبق أنْ بيَّنا أن الجبال هي مصادر القوت ومخازنه في الأرض، ذلك لأنها مصدر التربة الغنية الخِصْبة التي تنساب مع ماء المطر، وتنتشر في أنحاء الأرض فتزيد من خصوبتها:
{ { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر: 21].
فأجناس الخلق كلها فيها آيات، فالجماد انظر مثلاً إلى الجبال وما فيها من خيرات وألوان شتَّى فيها الرخام والجرانيت والمرمر وغيرها، والنبات ويمثل المصدر الأساسي للقوت، انظر مثلاً إلى النخلة العربية وقارنها بالنخلة الأفرنجي، فالنخلة عندنا مصدرٌ للقوت وننتفع بكل شيء فيها بحيث لا يُرمى منها شيء أبداً.
لذلك تجد لها درجاً يمكنك من الصعود عليها لتقليم جريدها أو جمع ثمارها، أما النخلة الأفرنجي فهي للزينة، لذلك تجدها ملساء يصعب الصعود عليها، هذا من حكمة الخلق ودقته، فتبارك الله أحسن الخالقين.
تأمل جريدة النخيل تجدها عريضة من أصلها ونحيفة رفيعة من طرفها، والورق فيها على عكس ذلك فهو مسطَّح منبسط من أعلى، ثم يأخذ (ينبرم) إلى أنْ يصيرَ شوكاً عند أصل الجريدة، القريب من الثمر، وذلك لأن هذه الأشواك تحمي الثمار من الفئران، ثم تأمل أن هذه الأشواك تنتهي عند أصل الجريدة، ولا تمتد إلى الشماريخ التي تحمل الثمار.
ثم تأمل الساق فهي في النخلة طويلة مستقيمة على خلاف الأشجار الأخرى تجدها قصيرة ومتفرعة، لأن الثمار عليها صغيرة يسهل حملُها على الفروع، أما ثمرة البطيخ مثلاً فهي على ساق رفيع لولبيٍّ يتمدد على الأرض، لأن الثمرة ثقيلة.
إذن: المسألة قدرة ليست (ميكانيكا)، وفي الأكل تأكل مثلاً قشرة المشمش وتترك اللبّ بعكس اللوز فتأكل اللب وتترك القشرة، هذه طلاقة قدرة وحكمة عالية للخالق عز وجل، ثمرة التين تأكلها كلها فليس لها قشرة، أما البرتقال أو اليوسفي فله قشرة، ثم تأمل اختلاف الألوان والطعوم في النباتات وهي تُسقى بماء واحد. وقُلْ: سبحان الخالق.
تأمل الأشجار تجد منها أشجاراً خضراء ليس لها ثمار وتظن أنها لا فائدة منها، لكن لا بدَّ أن يكون لها فائدة إما لك وإما لغيرك من المخلوقات، ويكفي أنها زينة وجمال ومصدر للأكسوجين وربما كانت لها فوائد أنت لا تعرفها، تجد مثلاً من هذه الأشجار لها أزهار مختلفة الأشكال والألوان والروائح.
وهذا عالم آخر من الإبداع الجمالي في الطبيعة، ولهذه الألوان والروائح المختلفة حكمة لأنها تجذب الفراشات والحشرات التي تقوم بعملية التلقيح للمزروعات، ولكل فراشة أو حشرة مزاج في اللون وفي الرائحة.
لذلك لما انتشرت المبيدات الحشرية قلَّتْ هذه الظاهرة ولم نعُد نرى الأزهار في الحقول لماذا؟ لأن المبيدات قتلتْ الفراشات التي تقوم بمهمة التلقيح.
وحين تتأمل عملية التلقيح ذاتها تجد فيها آية من آيات الخَلْق وبديع صُنْع الله تعالى، فمن المزروعات ما نعرف كيفية تلقيحه كالنخيل مثلاً، ونعرف أن منه الذكر ومنه الأنثى، وهذا واضح في شكل الشجرة لكن شجرة المانجو مثلاً لا نعرف كيف تتم فيها عملية التلقيح؟
وحين ترى كل هذا الجمال في الخَلْق، عليك أنْ تذكر الخالق وتقول: تبارك الله أحسن الخالقين. وأجمل من الحُسْن مَنْ خلق الحُسْن.
وكلمة { جَمِيعاً مِّنْهُ .. } [الجاثية: 13] كلمة جميع من كلمات التوكيد، فهي تعني كل ما في السماوات وما في الأرض من الله بلا استثناء، فكل صغيرة وكل كبيرة من الذرَّة إلى المجرَّة من فضل الله، ما تعرفه وما لم يُحط به علمك.
وكلمة (مِنْهُ) قرأها بعضهم (منة) والمعنى لم يبعد عن المراد فهي من الله، وهي منة من الله.
وأنتم تعرفون أن القرآن أول ما جُمع جُمعَ بدون نقاط وبدون تشكيل اعتماداً على المَلَكة العربية في فهم المعاني واستنباطها، ويُروى أن حماداً الراوية كان لا يحفظ القرآن، فلما جاءوا له بالمصحف قرأ:
{ { عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ .. } [الأعراف: 156] وبالسين يظل المعنى صحيحاً، لكن لفظ القرآن (أشاء).
وقرأ: صنعة الله ومن أحسن من الله صنعة. فنطق الغين عيناً وهي نفس المعنى.
إذن: عطاء القرآن عطاء ممتد، ويستطيع المتذوّق للعربية أنْ يصلَ إلى معانيه وحكمه. لكن لما فسدتْ الملَكات اضطروا للنَّقْط والتشكيل ليتضح المعنى، مع أنهم كانوا زمان يعتبرون تشكيلَ الكتاب سُوءَ ظنٍّ بالمكتوب له، لأن في ذلك اتهاماً له بعدم الفهم.
ثم يقول سبحانه: { إِنَّ فِي ذَلِكَ .. } [الجاثية: 13] أي: في هذه المخلوقات المسخّرة لكم { لأيَٰتٍ .. } [الجاثية: 13] عجائب ودلائل { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الجاثية: 13].
إذن: هذه دعوة للإيمان، فالحق سبحانه يعرض علينا صنعته وإبداعه في الكون، ويدعونا أنْ نتأمل فيه، وأنْ نُعملَ فيه عقولنا، والصانع لا يفعل هذا بصنعته إلا إذا كان واثقاً من جودتها.
قلنا: لو أنك ذهبتَ إلى بائع القماش تشتري منه مثلاً بدلة صوف فتراه يعرض عليك أثوابَ القماش، ويُبيِّن لك جودتها، ثم يأخذ منها (فتلة) ويشعل فيها النار أمامك ليظهر لك حقيقة هذه الجودة، وهو لا يفعل ذلك إلا لثقته في بضاعته.
أما الآخر صاحب البضاعة الفاسدة المغشوشة (فيُدوّك) عليك ويُوهمك بالكلام والتدليس والزور، ولا يجرؤ أنْ يبينَ لك حقيقة ما عنده.
إذن: حينما يخاطبك ربك: اعقل، تدبَّر، تذكَّر، فهذا يعني أنك لو أعملتَ الفكر في هذه الآية لأوصلتْكَ إلى الحق وإلى مراده منك، لذلك يحذر الحق عباده من الإعراض عن الآيات
{ { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف: 105].
ثم يقول الحق سبحانه:
{ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ... }.