التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
٢
-الجاثية

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذه السورة أيضاً من الحواميم، وهي السور التي افتُتحت بقوله تعالى (حم)، وسبق الكلام فيها، لكن ما دام أن الحق كرَّرها فلا بدَّ لنا أنْ نتعرَّض لها بما يفتح الله به ولا يُعد هذا تكراراً.
فإذا نظرنا إلى الحياة التي نراها وجدنا فيها مُلكاً مشاهداً، وملكوتاً غير مشاهد، وكل ما غاب عن حواسِّك فهو غَيْبٌ لا يعلمه إلا الله، خُذْ مثلاً العقائد والعبادات تجد أنها تقوم على هذين الجانبين الغيب والمشهد.
فأنت تستطيع بالعقل أنْ تبرهن على وحدانية الله، وعلى وجوده سبحانه، وأنه خالق هذا الكون كله، فالإنسان طرأ على هذا الكون ووجده كما هو الآن، الشمس والقمر والنجوم، السماء والأرض، الماء والهواء.
لذلك لم يدَّع أحدٌ أنه خلقه، قال سبحانه
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ .. } [لقمان: 25] وقال: { { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ .. } [الزخرف: 87].
هذا مشهد، وفي العقائد أمور أخرى غَيْبٌ نؤمن بها لأن الله أخبرنا بها، كأمور الآخرة والبعث والحساب والجنة والنار، خُذْ مثلاً من العبادات الصلاة نستطيع أنْ نفهم لها عللاً عقلية، فنقول: إن الله فرضها علينا خمْس مرات في اليوم والليلة ليتردد العبدُ على خالقه، وليستمدَّ منه القوة والعوْن، وليأنس بلقائه، وليأخذ من فيض عطائه وإشراقاته.
والصلاة كذلك تُسوِّي بين العباد الغني والفقير، الرئيس والمرؤوس الكل ساجد لله، هذا استطراقٌ عبوديّ في الكون، هذا كله مشهد، لكن بالله قُلْ لي: لماذا كان الصبحُ ركعتين، والظهر أربعاً، والمغرب ثلاثاً؟ هذه غَيْبٌ نؤمن به كما هو، وكما أخبرنا به رسول الله المؤتمن على شرع الله.
كذلك في القرآن الكريم غيب ومشهد، غيب في هذه الحروف المقطَّعة التي استأثر اللهُ بعلم معناها، وباقي القرآن بعد ذلك مشهدٌ لأنه بيِّن واضح المعنى ظاهرُ القصد، لأن الحق سبحانه يريد أنْ يتعبَّدنا بالغيب كما تعبدَّنا بالمشهد.
والغيب هو محلُّ الإيمان. أما المشهد فليس مجالاً للإيمان أو الكفر، فلا تقول مثلاً: أومن بأن الشمس طالعةٌ، لكن أقول: أومن باليوم الآخر.
فقوله تعالى هنا: (حَم) يعني: حروف مُقطَّعة في بداية بعض سور القرآن هي غيب نؤمن به ونترك معناه لمنْزله سبحانه { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ .. } [الجاثية: 2] هذا هو المشهد، وفي السورة قبلها (حم) غَيْب
{ { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [الدخان: 2] مشهد. { { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ .. } [الدخان: 3] يعني: الاثنان الغيب والمشهد مُنزّل من عند الله، فهما سواء في التعبد لله تعالى، فكما تعبَّدك بالواضح المفهوم تعبَّدك بالغيب الذي لا تفهمه، وكُل ما هنالك أننا نحوم حولها، نحاول أنْ نستشفّ بعض أسرارها.
لذلك نقول: إن القرآن كله مبنيٌّ على الوَصْل في الآيات وفي السور، حتى أن آخر كلمة في سورة الناس موصولة بأول كلمة في الفاتحة، فنقول: { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } وهكذا.
لذلك نُسمِّي قارئ القرآن (الحالّ المرتحل) يعني: ما يكاد ينتهي من القرآن حتى يبدأ من أوله.
أما الحروف المقطّعة في أوائل السور فمبنيةٌ على الوقْف تقول: حا، ميم، ألف لام ميم، في حين أنك لا تقف على نفس الحروف في
{ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشرح: 1].
إذن: لكل نطق علَّة وله أسرار، فهو أشبه بأسنان المفتاح الذي يفتح لك، فمفتاح يفتح لك بسِنٍّ واحد، ومفتاح يفتح لك بسنِّيْن، ومفتاح يفتح لك بثلاثة.
وقوله: { مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الجاثية: 2] اختار هنا اسم العزيز، لأن القرآن سينزل وسوف تجد من القوم مَنْ يكذِّبه، فلا تهتم لذلك ولا يغرَّنك تكذيبهم، فالله مُنزل هذا الكتاب عزيز لا يُغلب، وهذه العزة ليستْ بقهر، إنما عزة بحكمة { ٱلْحَكِيمِ } [الجاثية: 2] والحكيم: هو الذي يضع الشيء في موضعه المناسب.