التفاسير

< >
عرض

وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ
٢٧
-الجاثية

خواطر محمد متولي الشعراوي

هنا أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور، أفاد قصر ملكية السماوات والأرض على الله وحده لا شريك له: { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ .. } [الجاثية: 27] تقوم القيامة كأنها كانت نائمة وقامتْ، وأبهم الساعة لننتظرها في أيَّ لحظة.
فالإبهام هنا كما قُلنا عَيْن البيان، لأنه يجعلنا دائماً على استعداد لها، كما أبهم الله تعالى أجل الإنسان ليستحضره دائماً في أيِّ وقت ولا يغفل عنه، ومَنْ لا يملك لنفسه البقاء طرفة عيْن جدير ألاَّ يغفل عن آخرته ويحذر أنْ يأتي أجله وهو على معصية الله.
فمَنْ مات على شيء بُعِث عليه خاصة إذا كان الموت لا ينتظر أسباباً. فالموت من دون أسباب هو السبب، مات لأنه يموت وقد حان أجله، وقد تنبه الشعراء لهذا المعنى فقال أحدهم:

فِي الموْتِ مَا أعيَا وَفِي أسْبَابِهِ كلُّ امرئٍ رهْنٌ بطَيِّ كِتَابِهِ
أَسَد لَعْمركَ مَنْ يموتُ بظُفْرِهِ عندَ اللقَاء كَمَنْ يموتُ بنَابهِ
إنْ نامَ عنَكَ فأيُّ طلَب نافعٌ أَوْ لم ينَمْ فالطبُّ من أذْنابه

نعم يدخل غرفة العمليات فلا يخرج منها ويكون الطب هو سبب موته. إذن: الحق سبحانه يبهم لحكمة وهدف. ومن رحمته تعالى بخَلْقه أنه لما أبهم الساعة جعل لها علامات تنبّه الغافل حتى لا تُفاجئ الناس.
من رحمته بنا أن جعل لها علامات صغرى وعلامات كبرى، هذا حنان من الله على خَلْقه:
{ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً .. } [الأعراف: 187].
وقوله: { يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ } [الجاثية: 27] أي: المستمرون في الباطل، وكلمة (يخسر) من الخسارة التي يقابلها المكسب، وهذه مسألة يعرفها التجار، فكل تاجر يريد المكسب أي: الزيادة على رأس المال.
إذن: كل عمل من الأعمال يجب أنْ يُحسبَ من حيث المكسب والخسارة، فالكافر في الدنيا يظن أن عمله يعود عليه بالمكسب في الدنيا، لكن سيُفاجأ يوم القيامة حيث انتهى وقت العمل أنَّ عمله عاد عليه بالخسران.
{ { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً .. } [آل عمران: 30].
ومعنى الخسارة هنا أن يجد كل أعماله ذهبتْ هباء منثوراً دون فائدة:
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39].
لذلك لما سُئلنا عن أصحاب الاختراعات والابتكارات التي خدمت البشرية ويسَّرتْ على الناس حركة الحياة، وخفَّفتْ آلام المتألمين: كيف بعد هذا كله يدخلون النار؟
قلت: نعم، لأنهم عملوا هذه الأعمال لخدمة الإنسانية ولم يكُنْ الله في بالهم، لذلك أخذوا أجورهم من البشرية تكريماً وتخليداً لذكراهم وتمجيداً لهم، فعملوا لهم التماثيل وألفّوا فيهم الكتب .. إلخ.
إذن: لا نصيبَ لهم في ثواب الآخرة، ولو عملوا لله لوجدوا الأجر عند الله، لأن الأجير لا يطلب أجره إلا ممنْ عمل له.
لذلك سيُفاجأ الكافر بهذه الحقيقة، هذه المفاجأة نفهمها من قوله تعالى:
{ وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ .. } [النور: 39] فُوجئ بإله لم يكُنْ في باله، أو كان مُنكراً له كافراً به.