التفاسير

< >
عرض

وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٥
-الجاثية

خواطر محمد متولي الشعراوي

أي: من آياته الكونية الدالة على قدرته تعالى اختلافُ الليل والنهار، وفي آيات أخرى عرفنا أن الليل وحده آية والنهار وحده آية، والكلام هنا عن اختلاف الليل والنهار، ومجرد اختلافهما آية من آيات الله.
فالليل والنهار مختلفان من عدَّة وجوه: مختلفان في ظلمة الليل ونور النهار، ومختلفان طولاً وقصَراً، وكذلك مختلفان في المهمة، وهما ظرفان لزمن الأحداث، وقد يطول الليل ويقصر النهار، أو يطول النهار ويقصر الليل، ثم يتساويان في المدة.
فمثلاً نجد الليلَ يطولُ في الشتاء ويقصر في الصيف، وهذا لحكمة، فنحن نعمل طوال يوم الشتاء حيثُ اعتدال الجو الذي يساعد على العمل؛ لذلك نحتاج إلى فترة أطول للراحة، فنجد ذلك في ليل الشتاء الطويل.
ثم لو نظرتَ إلى الليل والنهار بصورة أوسع تشمل الكرةَ الأرضية كلها وجدتَ أنهما مُتداخلان، فالنهار عندك ليلٌ عند غيرك، والليل عندك نهارٌ عند غيرك، فهما موجودان معاً، لكن في أماكن متباعدة من الأرض.
وهكذا تجد كلَّ لحظة من لحظات الزمن يبدأ فيها ليلٌ وينتهي نهار، أو يبدأ فيها نهارٌ وينتهي ليل، إذن: هي حركة دائرة لا تنتهي، مواقيت مختلفة في الزمن كله.
فلو أخذنا مثلاً الأذان لوجدناه يدور في كلِّ لحظة من لحظات الزمن بكلِّ لفظ من ألفاظه، ففي اللحظة التي تقول فيها (الله أكبر) غيرك يقول (أشهد ألا إله إلا الله) وغيرك يقول (أشهد أن محمداً رسول الله) وهكذا.
والأمر كذلك في الصلاة، فحين تُصلي الظهر، غيرُك يصلي العصر، وغيرُك يصلي المغرب، وآخر يُصلي العشاء في اللحظة ذاتها. إذن: نستطيع أنْ نقول بوجود كلِّ الأوقات في كلِّ الأوقات، وأن الحق سبحانه يُعبد في كلِّ لحظة بكلِّ أنواع العبادات، وأن ألفاظ الأذان دائرةٌ في سَمْع الدنيا كلها، تستوعب كلَّ الزمان وكلَّ المكان.
وهذا كلُّه من اختلاف الليل والنهار طُولاً وقِصَراً، والطول والقِصَر ناتج عن حركة الشمس، وهذه مسألة أخرى تحتاج إلى دِقَّة في الملاحظة، فالشمس حين تشرق عندك تغيب عند غيرك، فكلُّ مشرق عند قوم مغربٌ عند آخرين.
وهذه تفسر لنا قوله تعالى:
{ { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } [الرحمن: 17] فقال مشرقين ومغربين، لأن المشرق عندك مغرب عند غيرك في نفس الوقت.
فإذا نظرتَ إلى امتداد الزمان في جزئياته الدقيقة بالثانية وجدتَ مشارق ومغارب، كما قال سبحانه:
{ { بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ .. } [المعارج: 40] فإذا نظرتَ إلى المكان الواحد وجدتَ مشرقاً ومغرباً، وقد قال سبحانه { { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ .. } [المزمل: 9] إذن: فهو صادق في كلِّ ما أخبرنا به سبحانه.
ومن آيات الليل والنهار أيضاً أن الله جعلهما خلْفةً، يعني: الليل يخلُف النهارَ والنهارُ يخلُف الليلَ، قال تعالى:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [الفرقان: 62].
وقد فهمنا من هذه الآية أن الأرض كُروية، فهذه النظرية العلمية الحديثة أثبتها القرآنُ وسبق بها، فمعنى أن الليلَ والنهار خلفةٌ أن الأرض مثل الكرة بحيث في الخَلْق الأول خُلقت الأرض مواجهةً في ناحية منها للشمس.
فكانت هذه الناحية النهار والمقابلة لها الليل، إذن: خُلِقَ الليل والنهار معاً، ووُلِدا معاً، ثم لما دارتْ الأرضُ خلفَ الليلُ النهارَ، وخلفَ النهارُ الليلَ، ولو لم تكن الأرض مُكوَّرَة ما حدث هذا.
وهذه الحقيقة أكَّدها الحق سبحانه بصورة أوضح في قوله تعالى:
{ { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس: 40] لأن العرب كانوا يعتقدون أن الليل أسبقُ من النهار، لذلك كانوا يُؤرِّخون للمناسك بدورة القمر، فالشمس نعرف منها اليوم، والقمر نعرف منه الشهر، ومن الشهر تكون السنة.
كذلك رمضان يثبتُ بليله لا بنهاره، لأنه يعتمد على ظهور الهلال؛ لذلك اعتقدوا أن الليلَ أسبقُ من النهار فصوَّب لهم القرآن هذا الاعتقاد فقال:
{ { وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ .. } [يس: 40] فوافقهم في أن النهار لا يسبق الليل وعدَّل لهم { { وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ .. } [يس: 40].
إذن: خُلِقا في وقت واحد، وهذا لا يكون أبداً إلا إذا كانتْ الأرضُ مكوَّرة. فلا سبْقَ لأحدهما على الآخر.
وقوله سبحانه: { وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا .. } [الجاثية: 5] أنزل الله من السماء آياتٍ كثيرة منها المادي ومنها المعنوي، المعنوي هو الكتاب الذي أنزله على رسول الله لهداية الخلق، والمادي مثل المطر وسماه رزقاً لأنه سببُ الرزق حين ينزل على الأرض فيُحييها بالنبات والثمار.
وكل رزق جاء من جهة العلو الخالقة فهو مُنزَّل، حتى لو كان في باطن الأرض؛ لذلك قال سبحانه عن الحديد:
{ { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ .. } [الحديد: 25] لذلك جعله اللهُ أداةً لإثبات قدرته تعالى للمعاندين للدين، فقال في ختام الآية: { { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ .. } [الحديد: 25].
وقوله: { مِنَ ٱلسَّمَآءِ .. } [الجاثية: 5] معلوم أن السماء ليستْ محلاً للماء، الماء في السحاب وهو كما قلنا ضاحية من ضواحي الأرض وتابعٌ لها، أما السماء فشيء آخر أبعد من أن يتصوّره العقل، والمراد: من جهة السماء.
والمتأمل في دورة الماء في الطبيعة يجد أنه في الأرض حيث ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ماء، وغالبه الماء المالح، وهذا لحكمة أنَّ نسبة الملح في الماء تحفظه من التغيُّر والعطن، وبالبخر تتكوَّن السُّحُب وينزل المطر يحمل الماء العَذْب الصالح للشرب وللزراعة وغيرها.
ومن آيات الله في الماء أنْ تتسعَ رقعة الماء المالح لتتسع رقعة البخر، وبالتالي تزيد مساحة تبخُّر الماء العَذْب الذي يكفي بعد ذلك لحياة الأحياء على الأرض، ثم تجد مُلوحة الماء في البحار والمحيطات بالقدر المناسب الذي يحفظ الماء من الفساد ويسمح بمعيشة الأسماك والحيوانات البحرية الأخرى.
ولو زادتْ الملوحة عن هذا الحد لماتتْ فيها الثروة السمكية، كما نجد مثلاً في البحر الميت، حيث تزيد فيه نسبة الملوحة لأنه مُغلَق ولا يأتيه مَددٌ من روافد أخرى تُقلِّل من ملوحته.
ولنعرف قدرة الله في إنزال الماء العذب من السحاب هذا الماء الذي يكفي للشرب ولزراعة الأرض، انظر كم تتكلَّف زجاجة الماء المقطر حين تُعدُّها في المعمل، هذا الماء ينزل لك من السماء عَذْباً صافياً زلالاً دون مجهود منك ودون نفقات.
هذا الماء في حَدِّ ذاته آية من آيات الله، لأن به تكون الحياة، لذلك سمَّاه القرآن رزقاً، البعض قال: يعني سبب في الرزق والبعض قال: لا بل هو نفسه رزق، هو سبب في الرزق حينما نروي به الزرع، لكن هو رزقٌ حينما نشربه أو نُدخله في الطعام.
وقوله: { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا .. } [الجاثية: 5] وهذه آية أخرى، والأرض الميتة هي الجرداء القاحلة التي لا نبْتَ فيها، فالله يُحييها بالنبات كما قال في آية أخرى:
{ { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ .. } [الحج: 5].
ثم ينتقل إلى آية أخرى { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ .. } [الجاثية: 5].
تصريف الرياح يعني: تغيير اتجاهها من هنا إلى هناك، أو تغيير أحوالها، فهي مرة نسيم لطيف، ومرة ريح عاصف، ومرة تكون حارة، ومرة باردة، مرة مُعمِّرة ومرة مدمرة. هذه كلها أحوال للرياح يُصرِّفها خالقها عز وجلّ كيف يشاء، ولا يُصرِّفها غيره.
وحين تُدقِّق وتتأمل في عملية تصريف الرياح تجد فيها مظهراً من مظاهر الإعجاز للخالق سبحانه، انظر إلى هذه الأبراج وناطحات السحاب، واسأل نفسك مَنْ يقيم هذه الأبنية العملاقة؟ ومَنْ يسندها فلا تميل رغم هبوب العواصف عليها؟
الذي يسندها هو الهواء الذي يحيط بها من كُلِّ ناحية، ولو فرَّغْتَ جانباً منها من الهواء لانهارتْ في هذا الجانب الفارغ من الهواء.
إذن: الهواء هو الذي يحفظ توازنها، لذلك ساعة تجد القرآن يستعمل كلمة (الريح) بصيغة الجمع فاعلم أنها للعَمَار وللخير، وساعة تكون مفردة فهي للدمار وللخراب.
الريح الواحدة تُدمر، والرياح تسند وتُعمر، لأن هذه تأتي من ناحية واحدة، وهذه تأتي من جميع النواحي فتحدث التوازن المطلوب.
واقرأ هنا في سياق الحديث عن آيات الله وتعداد نعمه: { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ .. } [الجاثية: 5] وفي آية أخرى قال سبحانه:
{ { بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا .. } [الأحقاف: 25] وقال: { { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ } [الذاريات: 41-42].
وقوله: { ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الجاثية: 5] لأن العقل هو الذي يستقبل الأحداث ويناقشها ويُفاضل بين القضايا، ويستخلص منها الحقَّ، ويُلقيه إلى القلب فيصير عقيدةً راسخة لا تقبل الشَّكَّ.
ورحم الله الفخر الرازي الذي أجرى مقارنة علمية دقيقة بين هذه الآيات في الجاثية بداية من قوله تعالى: { إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الجاثية: 3] إلى { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الجاثية: 5] وبين الآية 164 من سورة البقرة:
{ { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة: 164].
أولاً: وجد الاختلافَ الأول بين الموضعين أن الجاثية فيها
{ { إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [الجاثية: 3] أما البقرة { { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [البقرة: 164] وهما بمعنى واحد، لأن الخَلْق حدثُ الإيجاد، فالحدث نفسه يسمى خَلْقاً، ويطلق أيضاً على المخلوق بدليل قوله تعالى: { { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } [لقمان: 11] أي مخلوقه.
إذن: المعنى في الموضعين واحد.
ثانياً: عدَّ الآيات الكونية المذكورة في الجاثية فوجدها ست آيات، وفي البقرة ثماني آيات، فلما بحث الزيادة في البقرة وجدها في قوله تعالى:
{ { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ .. } [البقرة: 164] { { وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ .. } [البقرة: 164].
فقال: هاتان الآيتان في الفلك وفي السحاب أغنى عنهما قوله تعالى في الجاثية { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } [الجاثية: 5] لأنهما يجريان بحركة الرياح.
الاختلاف الأخير بين الموضعين أن آية البقرة خُتمتْ بمقطع واحد هو { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة: 164] أما آيات الجاثية ففيها ثلاثة مقاطع هي: { لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الجاثية: 3] { ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [الجاثية: 4] { ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الجاثية: 5].
المؤمن ساعة يسمع من الله يُصدِّق ويؤمن بما أخبر الله به، واليقين يكون لدى طالب الحقيقة الذي يبحث عنها في قضية علمية يريد أن يصل إلى اليقين من خلالها.
والإنسان إذا لم يكُنْ مؤمناً واثقاً ولا طالباً للحقيقة فلا أقلَّ من قَدْر من العقل يُميِّز به بين الأشياء، ويعرف به ماذا يأكل؟ وماذا يشرب؟ وماذا يأخذ؟ وماذا يدع.
إذن: هذه المقاطع الثلاثة تمثل مراحلَ الإدراك السليم. والتعقُّل هو أدْنى مرتبة، لذلك خُتِمَتْ بها آية البقرة.