التفاسير

< >
عرض

وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
٧
يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٨
-الجاثية

خواطر محمد متولي الشعراوي

كلمة (ويل) قالوا: وَادٍ في جهنم، أو هلاك لا مفرَّ منه ولا نجاة، وكلمة الويل تختلف حَسب قائلها المنذِر بها، فحين يقول لك واحد مثلك: ويلٌ لك. تتوقع أن يكون الويل على قدره، ويتناسب مع قدرته عليك، وتمكّنه من تنفيذ ما هدَّدك به من بطشه وفتكه.
فإذا كان المتكلم بذلك التهديد هو الحق سبحانه فهمنا أنه هلاكٌ مُحتَّم لا قِبَلَ لأحد به، ويل كبير لا يُردُّ ولا يُدفع.
فلمَن هذا التهديد؟ { لِّكُلِّ أَفَّاكٍ .. } [الجاثية: 7] الأفَّاك من الإفك، وهو قَلْب الشيء على وجهه أو قلْب الحقائق عَمْداً، ومن ذلك قوله تعالى:
{ { وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ } [النجم: 53] وهي القرى التي قَلَبها الله تعالى رأساً على عقب وجعل أعلاها سافلها.
ومن ذلك أيضاً قصة الإفك في حَقِّ السيدة عائشة
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ .. } [النور: 11] إذن: الإفك هو أفظع أنواع الكذب؛ لأنه كذب متعمد يصرف الناسَ عن الحق إلى الباطل.
وهو لا يضر واحداً، إنما يقع ضرره على جَمْع من الناس فشرُّه يتعدَّى ويلزمه عقوبة تناسب هذا التعدِّي على الخَلْق، لذلك ساعة تسمع كلمة (ويل) فاعلم أنها لذنب كبير.
وكلمة { أَفَّاكٍ .. } [الجاثية: 7] صيغة مبالغة على وزن فعَّال، ولو كذب مرة واحدة لكان (آفِك) إنما تكرر منه هذا الذنب حتى بالغ فيه ومثله في المبالغة { أَثِيمٍ } [الجاثية: 7] يعني: كثير الإثم. فهي صيغة مبالغة أيضاً على وزن فعيل. أي: مُبالغ في الآثام. تقول: آثم وأثيم. مثل: عالم وعليم.
فالمرء لو فهم علماً من العلوم سُمِّي عالم، أما عليم فيعني العلم في ذاته، لذلك لا تُقال إلا لله تعالى
{ { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76] فكأن هذا الآثِم قد تمرَّس في الإثم حتى صار طبعاً له وديدناً.
ثم يصف الحق سبحانه هذا الأفاك الأثيم، فيقول: { يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا .. } [الجاثية: 8] كأن الحق سبحانه يريد أنْ يُعرفنا الإفك على حقيقته، فالكذاب يكذب على مثله، أو يكذب على أسرة أو جماعة، لكن هذا يكذب على الدنيا كلها حين يُزوِّر الحقائق ويقلبها وهو متعمد.
وهذا معنى { يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً .. } [الجاثية: 8] ولذلك في القانون يقولون مع سَبْق الإصرار والترصُّد { مُسْتَكْبِراً .. } [الجاثية: 8] أي: متعالياً على الحق.
وفي الحديث الشريف "الكبر بَطر الحقِّ، وغَمْط الناس" فهو يتكبَّر لأنها تأتي له أي الآيات بواسطة من كان يعتقد أنه دونه، وبذلك اعتدى على الحق واعتدى على مُحقٍّ، كما حكى القرآن عنهم:
{ { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
إذن: المشكلة عندهم ليستْ في القرآن، لأنهم أهل فصاحة وبلاغة ويعلمون إعجاز القرآن وصِدْقه لكن يحسدون الرجل الذي جاء القرآنُ على يديه، يقيسونه بمقاييس الجاه والثراء عندهم.
فالرسالة في نظرهم ينبغي أنْ تأتيَ على يد رجل غني من عظماء القوم وأهل السيادة، وهذا عجيبٌ منهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له مكانة عظيمة بينهم قبل البعثة، وكانوا يتحدثون بصدقه وأمانته، بدليل أنهم حكَّموه في أمر الحجر الأسود حينما أرادوا وضعه في مكانه واختلفوا عليه، فالتناقض في مواقفهم نحوه ظاهر، كانوا يقولون عنه ساحر وكاهن وكذاب وشاعر، فلما فَتَر عنه الوحي قالوا: إن رب محمد قلاه.
وقوله تعالى: { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الجاثية: 8] معلوم أن البشارة إخبارٌ بخير قبل أوانه، وسمَّاها بشارة لأنها تُظهر البشْر والسعادة على الوجوه ساعة تسمع خبراً يسرُّك، فاستخدام البشارة في العذاب تكون على سبيل التهكُّم والسخرية وهي لَوْنٌ من ألوان العذاب والإهانة، مثل رجل كان يحثُّ ولده على المذاكرة والجد، ولكن الولد خالف أوامر أبيه، فلما ظهرتْ النتيجة وجد ولده راسباً فقال له: أبشر لقد رسبت، يريد أنْ يتهكَّم به ويعاقبه على إهماله.