التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
٢
-الأحقاف

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذه واحدة من الحواميم السبع، وهي السور التي بدأتْ بقوله تعالى (حم)، وهي سبع سور مُتصلة في القرآن الكريم أولها غافر: { حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [غافر: 1-2] أى: العليم بما يصلحكم، ولا تَخْفى عليه منكم خافية.
ثم فصلَّت:
{ حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [فصلت: 1-2] ثم الشورى: { حـمۤ * عۤسۤقۤ * كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الشورى: 1-3] ثم الزخرف: { حـمۤ * وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [الزخرف 1-2] ثم الدخان: { حـمۤ * وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [الدخان: 1-2] ثم الجاثية: { حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الجاثية: 1-2] ثم الأحقاف: { حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الأحقاف: 1-2]. وهي آخر الحَواميم.
ونلاحظ أن هذه السُّور تسير في بدايتها على نظام واحد يؤكد على أن (حم) وغيرها من الحروف المقطَّعة مُنزَّلة من عند الله، وهي وحْي يعلم الله مراده، وهي في التنزيل مثل باقي القرآن وباقي الآيات الواضحات، لذلك مرة يقول
{ حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [فصلت: 1-2] أي: هي ذاتها مُنزلة.
وفي آية أخرى يقول:
{ حـمۤ * وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [الزخرف: 1-2] يعني: حم والقرآن الظاهر الواضح المعنى، كلاهما تنزيل مُنزَّل من عند الله { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [الدخان: 3].
ونحن نؤمن بأن كل هذه الآيات من عند الله الذي نعرف معناه والذي لا نعرف معناه. قلنا: لأن الله تعالى يريد أنْ يحرس كلَّ إيمان بمشهد، فالإيمان لا يكون إلا في الغيبيات، ولا يكون الإيمانُ في المُشَاهد لنا.
فمثلاً لا يصح أنْ نقول: نحن نؤمن بأننا نجلس الآن مع الإخوان في مسجد الفردوس ونُلقي درساً، لكن نقول: نؤمن بأن الله موجود، بأن الجنة حَقّ. ومن رحمة الله ولُطفه بنا أنْ يحرس الإيمان الغيبي بأمر مُشاهد لنأخذ من المشاهد لنا دليلاً على صدقه فيما غاب عنا.
إذن: هذه الحروف المقطَّعة التي لا نعرف معناها نزلتْ هكذا لحكمة.
خُذْ مثلاً رحلة الإسراء والمعراج تجد فيها غيباً يحرسه مشهد، كيف؟ تعرفون أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرّض لكثير من الأذى وضُيْق عليه وعلى دعوته وعلى المؤمنين به، وكان آخر ذلك في الطائف حيث آذاه أهلها حتى شقَّ عليه ما يلاقي. وقلنا: إنه جلس يناجي ربه ويشتكي إليه قسوة هؤلاء ويطلب منه النُّصْرة.
بعدها جاء حادث الإسراء والمعراج، وكأنه رحلة تخفِّف عن رسول الله ورسالة تقول له: يا محمد إنْ جفاك أهل الأرض فسوف احتفل بك في أهل السماء وأذهب بك إلى مكان لم يذهب إليه أحدٌ قبلك، وأريك من آياتي ما لم يره أحد قبلك.
والمتأمل في سَيْر هذه الرحلة يجد أن الحق سبحان مهَّد بالإسراء للمعراج، فجعل رحلة الإسراء آية أرضية وهي آية مشاهدة معروفة أبعادها وتفاصيلها، وكثيرٌ من أهل مكة يذهبون في هذه الرحلة من مكة إلى بيت المقدس، ويمكن أن يقام عليها دليل عقلي لمن لا يؤمن بها؟
لذلك لما كذَّبه قومه وقالو: أتزعم أنك أتيتَ بي المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ ثم طلبوا من رسول الله أنْ يصف لهم بيت المقدس، وأنْ يعطيهم علامات في الطريق، ولو كانوا على يقين من هذه الرحلة ما سألوا رسول الله ذلك.
فهم إذن يريدون تعجيز رسول الله. لكن الله أيَّد رسوله وعرض أمامه صورة تفصيلية لبيت المقدس فأخذ رسول الله يصفه لهم، ثم أخبرهم بالعير التي لهم في طريق التجارة، وأنها بمكان كذا، وفيها كذا وكذا، ولما وصلتْ قوافلهم التجارية وجدوها كما أخبر رسول الله.
إذن: أمكن إقامة الدليل على صدقه صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء لتكونَ مقدمة للمعراج، وهو رحلة سماوية لا يطلع عليها أحد، ولا يمكن إقامة الدليل العقلي عليها، لكن الذي خرق القوانين الكونية لمحمد في رحلة الإسراء يمكن أنْ يخرق له القوانين في رحلة المعراج.
إذن: جعل الغيب الذي يُقام عليه دليلٌ مقدمة للغيب الذي لا دليلَ عليه.
ثم إن كلمتهم التي اعترضوا بها على رسول الله لمَّا قالوا: كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، هذه الكلمة نفعتنا فيما بعد ونردّ بها على دعاة التنوير والفلسفة الفارغة الذين يقولون إن الإسراء كان بالروح لا بالجسد.
فنقول لهم: لو كان الإسراء بالروح ما قال كفار مكة هذه الكلمة، وما قالوها إلا لعلمهم أنه كان حقيقة بالروح وبالجسد، وأن رسول الله ذهب إليها وقطع المسافات على وجه الحقيقة.
فالله تعالى يُنطق ألسنتهم بما يُؤيِّد الحق دون أنْ يشعروا، وبما يثبت عنادهم وتغفيلهم كما فعل اليهود في حادثة تحويل القبلة، علم الله ما سيقولونه وأخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم:
{ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا .. } [البقرة: 142].
وأعلن محمد صلى الله عليه وسلم هذه الآية وتلاها على الملأ وتداولتها الألسنة ومع ذلك قالوها، ولو كان عندهم قليلٌ من التعقل الديني لا الدنيوي لتوقَّفوا عن قولها.
ومن ذلك أيضاً قولهم:
{ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ .. } [المنافقون: 7] فالحق ينطلق من ألسنتهم دون أنْ يشعروا به.
كذلك الحال في آيات القرآن الكريم فيها مشهد وغيب، فنأخذ المشهد دليلاً على صِدْق الغيب، نأخذ الآيات الواضحة المعنى دليلاً على الآيات ذات الحروف المقطَّعة التي لا نعرف معناها ونقف عندها ونقول: الله أعلم بمراده منها، لكن هي حَقٌّ وهي من عند الله نزلتْ كما نزلت باقي الآيات لكن معناها غير واضح.
لذلك الحق سبحانه يعطينا إشارة إلى هذه المسألة إشارة تفرق بين (حم)
{ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [الزخرف: 2] حم الآيات الغامضة التى لا تعرفون لها معنى { وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [الزخرف: 2] البيِّن الواضح المعنى.
فجعل الآيات الواضحات المعنى مبنية كلها على الوصل من أول بسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة إلى
{ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [الناس: 4].
فالقرآن في مُجْمله مبنيٌّ على الوَصْل إلا هذه الحروف المقطَّعة الأربعة عشر فهي مبنية على الوقف، فتقرأ: (ألف لام ميم) (حاميم) وكأن هذا الوقفَ إشارة من الحق سبحانه أنْ لا تأخذوا هذه الحروف على نفس نسَق القرآن في النطق لأنها شيء آخر له خصوصية.
صحيح أنها جميعاً من معين واحد، وكلها من عند الله لكن قفُوا عند هذه الحروف وأرجعوا معناها إلى مُنزلها سبحانه، فقد استَأثر بها لنفسه ليستديم إيماننا بالغيب، وليصلنا دائماً به إيماناً وإسلاماً.
وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرح لنا هذه المسألة فيقول:
"ولا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" فكأن هذا الحرف وحده قائم بذاته له مدلول وله معنى يحسُن السكوت عليه، وإلا لما بُنيتْ هذه الحروف على الوقف.
وطالما أنها مختلفة عن باقي آيات القرآن في النطق، فلا بدَّ أن لها خصوصية، وأنَّ فيها أسراراً وكلّ ما بأيدينا أن نحوم حولها.
ونلاحظ أيضاً أن الحروف في اللغة تنقسم إلى حروف مبني وحروف معنى، فالكاف مثلاً حرف مبني يعني يدخل في بناء الكلمة، ولا معنى له في (كتب) لكنه حين ينضم إلى غيره يعطي معنى كتب.
أما الكاف في
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. } [الشورى: 11] فالكاف هنا حرف معنى يفيد التشبيه، كذلك الباء حرف مبني في (كتب) وحرف معنى في (بالله) لأنه يفيد القسم، كذلك في الحروف المقطَّعة في أوائل السور هي حروف مبني في شكل نطقها، لكنها حروف معنى عند قائلها الذي يعلم معناها.
وقد يُطلِع بعض عباده على هذه المعاني أو شيء منها فيفهمون منها معاني، ولذلك نقول في تفسيرها: والله أعلم بمراده، لأن حديثنا عنها مجرد اجتهاد ومحاولة للفهم.
وقلنا: إن هذه الحروف أربعة عشر حرفاً من حروف الهجاء الثمانية والعشرين، يعني أخذ نصف حروف المعجم، ولكن أخذها بنظام محكم لا يمكن أن يأتي عَفْواً، فأخذ من التسعة أحرف الأولى الألف والحاء وأخذ من التسعة الأخيرة سبعة وترك اثنين على عكس التسعة الأولى، فلم يترك منها إلا الواو والفاء.
إذن: ليس لها نسق معين، لكن هندسة مقصودة لغاية مقصودة، ثم العشرة الباقية في الوسط أخذ منها غير المنقوط، وترك المنقوط، فأخذ الراء وترك الزاي، وأخذ السين وترك الشين، وأخذ الصاد وترك الضاد، وأخذ الطاء وترك الظاء، وأخذ العين وترك الغين.
فإنْ قال قائل: كيف وإعجام الحروف أي نقطها لم يأتِ إلا في عصر الدولة الأُموية.
نقول: ربُّها وقائلها الناطق بها يعلم ما تصير إليه، فكلها داخلة في العلم الأعلى، لذلك نقف عندها ونأخذها بالكمال الذي وضعه قائلها فيها، فهي كما قلنا مثل أسنان المفتاح التي تفتح لك. فإذا تغيَّر المفتاح لا يفتح.
إذن: كل شيء في القرآن وُضع بحكمة، حتى في القراءة سواء المتعلم الذي يعرف المعنى أو الأمي الذي لا يعرف تجد القراءة على نوعين قراءة تأمل وتعبد وقراءة استنباط، وهذه ينبغي أنْ تُعملَ فيها عقلك.
وإنْ قرأت للتعبد فإياك أنْ تُعملَ عقلك، وخذ الكلمة أو الحرف بمراد قائله منه، وأنت حين تأتي بالمعنى الذي على قدرك سوف تحدد كمال الله وكمالاته التي لا تتناهى.
لذلك وجدنا أسرع الناس حفْظاً للقرآن هم الذين يقرأونه دون توقُّف عند معناه، بل يقرأونه كما هو بفَهْم أو بغير فهم.
وقوله تعالى: { تَنزِيلُ .. } [الأحقاف: 2] أي: الذي نزّل حم نزلّ { ٱلْكِتَابِ .. } [الأحقاف: 2] أي: القرآن { مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الأحقاف: 2] وتأمل هنا الوصف بالحكمة، فكل شيء نزل بحكمة حتى في هذه الحروف التي لا نعرف لها معنى.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ ... }.