التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠
-الأحقاف

خواطر محمد متولي الشعراوي

معنى { أَرَأَيْتُمْ .. } [الأحقاف: 10] أخبروني أنتم إن كنتم شاهدتم { إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ .. } [الأحقاف: 10] الجواب تقديره: ماذا يحدث لكم؟ والجواب معلوم: إنْ كان هذا القرآن من عند الله ومع ذلك كفرتُم به فلن تنالوا إلا غضبَ الله في الدنيا وعقابه في الآخرة.
{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ .. } [الأحقاف: 10] الشاهد الذي شهد على صدق القرآن، وأنه من عند الله هو عبد الله بن سلام، وهو أحد أحبار اليهود وأسلم وشهد لمحمد وللقرآن.
{ عَلَىٰ مِثْلِهِ .. } [الأحقاف: 10] على مثل القرآن من الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل، فهو مثلها من عند الله يدعو إلى ما دعتْ إليه من عبادة الله وتوحيده، فكما نزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى نزل القرآنُ على محمد صلى الله عليه وسلم، وصفته ثابتة عندهم في التوراة.
لذلك كان يقول عن رسول الله: والله لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لولدي ومعرفتي لمحمد أشد. نعم عرفه من العلامات التي وردت في كتبهم.
يقول تعالى:
{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ .. } [البقرة: 89] أي: القرآن { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ .. } [البقرة: 89] أي من قبل نزول القرآن { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ .. } [البقرة: 89] لماذا؟ لأنه سيسحب بساط السيادة والسلطة من تحت أقدامهم.
وقال أيضاً فيهم:
{ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ .. } [المائدة: 13] وإنْ كان لهم عذر في النسيان فليس لهم عذر في كتمان الكتاب وتحريفه، بل كان منهم صنف { يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [البقرة: 79].
إذن: اليهود نسُوا وكتموا وحرّفوا وبدّلوا، لكن الحق سبحانه وتعالى لا بُدَّ أنْ يُوقعهم في أشياء تدل على فعلهم وتكون منافذ للحق، فمثلاً في مسألة الذبيح عارضوا وقالوا: الذبيح إسحاق لا إسماعيل.
والرد على هذا الادعاء أنْ نقول لهم: إنْ كان الذبيح إسحاق، فلِمَ شُرعتْ مناسك الفداء ورَمْي الجمرات هنا، ولم تُشرع في موطن إسحاق.
وارجعوا إلى كتبكم أنتم، ففي التوراة في الأصحاح الرابع والعشرين قال الله لإبراهيم: يا إبراهيم اصعد بابنك الوحيد جبل المرية وقدِّمه قرباناً لله، وهل كان إسحاق وحيداً؟
وفي الأصحاح الذي بعده مباشرة يقول: لقد وُلد إسحاق وعُمْر إسماعيل أربعة عشر عاماً. إذن: كلامهم متناقض تماماً مع ما في كتبهم، وهذه منافذ للحق يُقيم بها الحجة عليهم.
وقوله: { فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ .. } [الأحقاف: 10] أي: آمن هذا الشاهد في حين استكبرتم أنتم على قبول الحق، وسبق أن ذكرنا قصة إسلام عبد الله بن سلام،
"وأنه أتى النبى صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله لقد أُشربَ قلبي حُب الإسلام، ولكن اليهودَ قومٌ بهْت، فإذا علموا ذلك قالوا: فيَّ ما ليس فيَّ، فاسألهم عنى قبل أنْ أسلم.
فلما اجتمعوا عند رسول الله سألهم: ماذا تقولون في ابن سلام؟ فقالوا: هو سيدنا وابن سيدنا وحَبْرنا وابن حَبْرنا ومدحوه. عندها قال: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: بل كذاب وكذا وكذا، فضحك ابنُ سلام وقال: ألم أقُلْ لك يا رسول الله أنهم قوم بُهْت"
؟ وقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأحقاف: 10] هذه الكلمة حَلَّتْ لنا إشكالاً وبيَّنتْ معنى الهداية، لأن البعض يقول: إذا كان الله قد حكم على الكافر بالكفر ولم يهْد القوم الظالمين فلِمَ يُعذّبهم؟
وهذه مغالطة. ولو كان السؤال منطقياً لأكمل الصورة، فقال: ولِمَ يثيب الطائع وقد كتب له الطاعة؟
وسبق أنْ أوضحنا في هذه المسألة أن الله تعالى هدى الجميع هدايةَ دلالة وإرشاد، وهذا القسم يشمل المؤمن والكافر، والطائع والعاصى، فقد دلّ الله الجميع وبيَّن لهم الطريق المستقيم، فمن أخذ بهذه الهداية وسار على نورها استحقَّ من الله المزيد.
{ { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17] وهذا النوع هو النوع الثاني من الهداية، وهي هداية المعونة والتوفيق.
فقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأحقاف: 10] يعني: لا يهديهم هدايةَ معونة، لذلك قال عن ثمود:
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ .. } [فصلت: 17] أي: هديناهم هدايةَ دلالة وإرشاد فاستحبُّوا العمى والضلال وفضّلوه على الهدى فأعانهم الله عليهم، كما أعان أهل الهدى على هداهم.
وتذكرون المثل الذي ضربناه سابقاً لتوضيح هذه القضية قلنا: لو أنك سألتَ رجل المرور مثلاً عن الطريق فدلَّك عليه فأخذتَ بقوله وشكرتَه فإنه يزيدك إرشاداً، وربما ذهب معك حتى يُوصِّلك إلى غايتك.
إذن: الحق سبحانه لا يهدي القوم الظالمين بسبب ظلمهم، ولا يهدي القوم الفاسقين بسبب فِسْقهم، ولا يهدي القوم الكافرين بسبب كفرهم.
وقبل أن نتجاوز هذه الآية ينبغي أنْ نذكر هنا أن عبد الله بن سلام قبل أنْ يعلن إسلامه سأل رسول الله عن أشياء ثلاثة، أراد بها أنْ يستوثق من صدق رسول الله، فقال له: ما شرط الساعة أو علامتها؟ قال: نار تخرج من قِبَل المشرق فتحشرهم إلى المغرب.
قال: ما أول ما يأكل أهل الجنة؟ قال زيادة كبد الحوت، قال: متى ينزع الولد إلى أبيه؟ ومتى ينزع إلى أمه؟ أو: متى يأتي الولد ومتى تأتي الأنثى؟ قال صلى الله عليه وسلم:
"إذا سبق ماءُ الرجل نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماءُ المرأة نزع الولد إلى أمه" .
وهذه المسألة الأخيرة أثبتها العلم الحديث وأثبتتها الأبحاث، ودلَّتْ على الإعجاز في الحديث النبوي الشريف وعلى صدقه صلى الله عليه وسلم، ذلك لأن الرجل والمرأة شركة في عملية الإنجاب.
البعض يتصور أن العملية الجنسية هي التي تأتي بالولد، لا فما هي إلا إثارة تُمكِّن الرجل من إخراج الميكروب المنوي، أما ماء المرأة فلا دخْلَ له في الإنجاب، كيف؟
لأن البويضة التي تحتضن الميكروب، لها مواعيد تنزل فيها بصرف النظر عن العملية الجنسية، فهي موجودة إذن بطبيعة الحال، فإنْ صادفت وجودها عملية جنسية تسابق ماءُ الرجل إليها وهي في مكانها. إذن: لا دخْلَ للبويضة في تحديد النوع كما أثبت العلم الحديث.
وإذا فهمنا المعنى اللغوي لكلمة (سبق) تأكدنا من موافقة الحديث النبوي للعلم، فالسبق يعني انطلاق المتسابقين من مكان واحد، فنقطة الاندفاع واحدة إذن.
نفهم من هذا أن التسابق بين الحيوان المنوي الذي يُمثِّل الذكورة والحيوان المنوي الذي يُمثِّل الأنوثة، فأيهما سبق كان النوع له، وعليه فدوْر المرأة أنها حاضنة لا يُلقيه الرجل.
صحيح أن القرآن جاء كتابَ عقائد ومنهج وتشريع، وهو أيضاً كتابُ إعجاز يمسّ الكونيات بقدر ما تتسع له العقول، وخصوصاً أنه نزل في أمة أمية، وهل بالله كان من الممكن أنْ يُقال في هذه الأمة إن الأرض كروية، لو قلنا هذا في هذا الوقت لقالوا: كذب.
لذلك يأتي القرآن بهذه الحقائق الكونية يُغلفها ليُؤجل فهمها إلى أنْ تنضج العقول وتستطيع إدراك هذه الحقائق، ويترك للزمن وأحداثه أنْ يشرح هذه الآيات، فإذا ما توصَّلنا إليها وجدنا لها دليلاً ونصاً من كلام الله.
وهل فهم العرب الذين استقبلوا القرآن معنى قوله تعالى:
{ وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ .. } [النمل: 88]؟ الجبال نراها في الواقع ثابتة مستقرة، فمعنى مرورها أنها تدور بدوران الأرض.
ونقرأ:
{ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ .. } [الزمر: 5] إذن: الأرض شبه كرة تدور. أعطانا الحق سبحانه هذه المعاني مغلفة حتى لا تفاجىء الناس فينصرفوا عن القرآن.
فهذا الكون كله بآياته الكونية هو الذي يشرح لنا معنى قوله تعالى:
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ .. } [فصلت: 53] والسين كما تعلمون تدل على الاستقبال.
وهذا يعني أن هذه الآية سيظلّ معناها قائماً وله مددٌ من الآيات إلى قيام الساعة، بحيث تتجلى الآيات وفقَ ما يتناسب وعقول الناس وتطوّر علومهم وإمكاناتهم.
وقد شرح القرآن الكريم مسألة خَلْق الإنسان، وشرح معنى كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم "إذا سبق ماءُ الرجل .." واقرأ قوله تعالى:
{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ } [القيامة: 37].
والنطفة هي الميكروب الذي يحمل الذكورة أو الأنوثة، والمنيُّ هو السائل الذي يعيش فيه هذا المكيروب، والمني من الرجل لا من المرأة. وهذا ما أثبته العلم، لذلك سماه العلماء x ,xy يعني: الاثنان من الرجل.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ... }.