التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٥
-الأحقاف

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ .. } [الأحقاف: 15] أمرناه بذلك وألزمناه به، والوصية أن تطلب ممَّنْ توصيه عملاً خيَِّراً يفيده في حياته وآخرته، ويعينه على آداء مهمته، لذلك تجد معظم الوصايا بالأمور المهمة تأتي في أخريات العمر، وكأنه يقول لأهله ولمن يوصيه: الحقوا خذوا مني نتيجة تجاربي في الحياة.
وهذه المادة أتت في القرآن بلفظ: وصَّى وأوصى. وصى تفيد تكرار الفعل، كما في قوله تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ .. } [الأحقاف: 15] وفي قوله تعالى:
{ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ .. } [البقرة: 132].
أما أوصى فهي للتعدية، كما في قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام:
{ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [مريم: 31] فهي مثل أنزل ونزَّل، وأنزل أي مرة واحدة، ونزَّل يعني تباعاً.
وكلمة { ٱلإِنسَانَ .. } [الأحقاف: 15] وهو الموصَّى تفيد الإطلاق والعموم أي الإنسان على إطلاقه من آدم إلى قيام الساعة في اسم جنس تقابل في الخلق المختار كلمة الجن، نقول: الإنس والجن، الإنس يعني الإنسان من الأُنس. يعني: يأنس بعضنا إلى بعض.
أما الجن فلا أنْسَ بيننا وبينه، لأننا لا نراهم ولا نتفق معهم في الطبيعة، قال تعالى:
{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ .. } [الأعراف: 27].
إذن: هذه الوصية مُوجّهة من الحق سبحانه للناس كافة وللإنسان عموماً، فتشمل المؤمن والكافر، والكبير المكلف والطفل دون التكليف، فإنْ فعل بالوصية يُثاب عليها، وإنْ تركها لا يُعاقب.
يمكن أنْ نقيس هذه المسألة على الصلاة، ففي الحديث الشريف قال صلى الله عليه وسلم:
"مُروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر" .
إذن: الأمر منكم وكذلك العقوبة منكم أيضاً، لأنه ما يزال دون سِنِّ التكليف الشرعي.
والصلاة في هذه السنِّ تدريب له وتعوّد ليرتاد ويألف الصلاة منذ صِغَره فيشب عليها، حتى إذا بلغ التكليف كانت سهلة عليه ومعتادة عنده.
وكلمة (الوالدين) أي: الأب والأم، وهما السبب المباشر للوجود، لأن هناك سبباً غير مباشر، وهو الوجود الأعلى الذي أوجد آدم وحواء، وهذا الوجود كان عن عدم، أما وجودنا نحن بالتناسل، فكان عن سبب وهو (الوالدان).
ولبقاء النوع وعمارة الأرض ربط الله تعالى - ولحكمة عملية - الإنجابَ بأقوى غرائز الإنسان وأقوى لذة عنده، كيف؟ قالوا: أنت حين تنظر إلى منظر جميل تستمتع به عينُك أو تشمّ رائحة طيبة يستمتع بها أنفُك. كذلك حين تأكل أكلة مُحبّبة إليك.
إذن: كلّ جارحة من جوارحك لها متعة خاصة، أما العملية الجنسية فتُحدث لذة ومتعة تستوعب الجوارح كلها، وتشارك فيها الجوارح كلها، لذلك شرع الله الغُسْلَ بعدها لاشتراك جميع الجوارح في هذه العملية، وأيضاً لأنك تغفل في هذه الأثناء عن الله فاستوجب ذلك الغسل.
وأيضاً لأن الحق سبحانه وتعالى علم أن الأولاد يُمثلون عبئاً على الأهل ومشقة في التربية والإنفاق والسعي عليهم، لذلك أقسم الله بهذه المسألة فقال:
{ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } [البلد: 3].
ولولا أن الله ربط الإنجاب بهذه اللذة لربما زهد فيها كثير من الناس، تروْنَ المرأة كم تعاني من آلام الحمل والولادة، حتى أنها تقول توبة لن أعود، ثم تنسى آلامَها ومقاساتَها وتحِنّ من جديد للحمل.
إذن: ربط الإنجاب بهذه اللذة لحكمة، لكن العجيب أن الناس تسرف فيها وتبالغ وتخرجها عن حدِّها فتجعل اللذة هي الأصل.
ونحن نرى الحيوانات مثلاً تمارسها لبقاء النوع فقط، لذلك ساعة يأتي الفحل للأنثى يشمّها أولاً، فإنْ وجدها حاملاً لا يقربها، وهي أيضا لا تُمكّنه من نفسها، والعجيب أننا نعيب الحيوانات ونقول: شهوة بهيمية .. سبحان الله!!
ثم إننا نلاحظ في هذه المسألة أن طفولة الإنسان هي تقريباً أطول فترة طفولة إذا ما قُورنت بباقي المخلوقات، فالحيوان مثلاً يلد ثم تُرضع الأم ولدها، وبعد فترة الرضاعة لا تعرفه ولا تهتم به.
أما في الإنسان فهو طفل حتى سنِّ البلوغ، اقرأ:
{ وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ .. } [النور: 59] ذلك لأن الإنسان مرتبطٌ ومكلّف تكليفاً أعلى من الحق سبحانه ومطلوب منه أنْ يأتمر بأمره، وأنْ ينتهي عن نَهْيه.
إذن: طبيعة الإنسان وتكريمه بصلته بالله جعلتْ فترة تربيته طويلة تناسب مهمته في الحياة. انظر مثلاً إلى البقرة تلد فينزل ولدها يتحرك وينفض عن نفسه البلل، ثم يقف بعد دقائق ثم ينهض واقفاً، ثم يجري حولها كل هذا في ساعة من الزمن.
أما الولد عندنا فيستطيع الجلوس مثلاً بعد عدة أشهر ثم يحبو ثم يقف ثم يمشي بعد سنة أو أكثر، بل وعندنا مَنْ يمد فترة الطفولة لأبنائه إلى سن 25 سنة، وهو في حكم الطفل يعوله وينفق عليه ولا يُحمِّله المسئولية.
والتوصية بالوالدين وردتْ في القرآن في أربعة مواضع مقرونة بعبادة الله:
{ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً .. } [النساء: 36] وقال: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً .. } [البقرة: 83].
وفي سورة الأنعام:
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً .. } [الأنعام: 151] وفي سورة الإسراء: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً .. } [الإسراء: 23].
هذه أربعة مواضع يأمر فيها الحق سبحانه الأولاد بالإحسان إلى الوالدين، ويقرن هذا لأهميته بعبادة الله وكأنهما في الميزان سواء؛ لأن الوالدين كما ذكرنا هما سببُ الوجود المباشر، وبرّهما والإحسان إليهما تمهيد وتدريب يُذكِّرك بالسبب الأعلى لوجودك، وهو الخالق سبحانه وتعالى.
وهذه الوصية يلزمنا الله بها حتى إنْ كان الولدان كافريْنِ كما قلنا في وصية عامة، يقول تعالى:
{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت: 8].
وقال سبحانه:
{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً .. } [لقمان: 15] فإذا كان الله تعالى يُوصينا بالوالدين حتى إنْ كانا مشركين لأنهما سبب الوجود المباشر، فما بالك بسبب الوجود الأعلى سبحانه؟
وقد اعترض بعض المستشرقين هنا وقالوا: القرآن يقول:
{ { فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً .. } [لقمان: 15] وفي آية أخرى يقول: { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .. } [المجادلة: 22].
فرأى تعارضاً بين الآيتين، وهذا ناتج عن عدم فهم اللغة وعدم الإلمام بأساليبها وأسرارها، فهناك فرْق بين الود والمعروف. الود منشؤه الحب والعاطفة القلبية، أما المعروف فجميلٌ تصنعه مع مَنْ تحب ومع مَنْ تكره.
والحق سبحانه حينما يأمرنا ببرِّ الوالدين إنما ليعطينا دُرْبة ورياضة على أن تبرَّ مَنْ خلقك وخلقهم، وهو الموجِد الأعلى سبحانه.
وكلمة (إحساناً) مصدر أحسن. والإحسان في الشرع أنْ تصنع من الخير والمعروف فوق ما فرض عليك ومن جنس ما فُرِض عليك، وهذا المعنى شرحه لنا الحق سبحانه في سورة الذاريات:
{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 15-16].
ثم يصفهم ويعطينا حيثيات الإحسان:
{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 17-19].
وواضح أن هذه المسائل الثلاثة المذكورة ليست فرضاً على المسلم، بل هي زيادة من جنس ما فرض عليه، ألاَ تراه يقول في الأموال:
{ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 19] لكن عندما يتحدَّث عن فريضة الزكاة يقول: { حَقٌّ مَّعْلُومٌ } [المعارج: 24].
فالحق المعلوم هو الزكاة الواجبة، لكن (حق) هكذا مطلقة، فهي للصدقات التي تخرج زيادة على الفريضة، ومَنْ يقدم هذه الزيادة في الطاعة تدخله في دائرة الإحسان التى هي أعلى مراتب العبادة.
كذلك الحق سبحانه يأمرنا ببرِّ الوالدين والإحسان إليهما، لأن لهما فضلاً علينا في الإيجاد وفي التربية وفي الإنفاق، فيجب أنْ نعطيهم أكثر مما يستحقون، وحين تعطي أكثر مما يجب عليك فأنت مُحسن إليهما.
إذن: الأمر في بر الوالدين لا يتوقف عند الواجب الضروري إنما يتعداه إلى مرتبة الإحسان.
لذلك الحق سبحانه حينما يُحدِّثنا عن حَقِّ الوالدين يقول:
{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [الإسراء: 23] وأف: اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر، وهي تدلّ على الضيق.
فاحذر أنْ تقول لهما هذه الكلمة أو تتأفف منهما خاصة حال كبرهما عندما يُردَّان إلى أرذل العمر ويكونان في أمسِّ الحاجة للحنان والرعاية.
ففي هذه السنِّ يعود الإنسان إلى الطفولة مرة أخرى، فيحتاج مَنْ يحمله ويُقعده ويؤكله، وربما حدث منه ما يدعو إلى التأذِّي، فإياك أنْ تتأذى منه في هذه الحالة.
ربما ارتعشتْ به قدماه فوقع على الأرض أو كسر (فازة) مثلاً، فاحذر أنْ تظهر له ما يؤذيه، واعلم أنك مُثابٌ على هذا، وأنه مُدَّخر لك ودَيْن سيُؤدَّى، ومَنْ برَّ والديه برَّه أبناءه.
ويكفي أنك حين تبره وتتحمل أذاه تفعل ذلك وأنت تتمنى موته، وقد فعل معك أكثر من هذا وكان يتمنى لك طول العمر.
وفي ضوء هذه العلاقة بين الآباء والأبناء نفهم حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا معشر الشباب، مَنْ استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضَ للبصر، وأحصن للفرج" .
فالزواج المبكر فوق أنه عصمةٌ لصاحبه هو أيضاً، كما قال العربي: أقرب طريق لإنجاب أب يرعاك في طفولة شيخوختك، حيث يصير الولد في هذه الحالة في منزلة الأب الذي يرعى ولده.
وفي موضع آخر قال الحق سبحانه:
{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً .. } [العنكبوت: 8] وفرْق بين حُسن وإحسان، فالإحسان أن تفعل معهما فعلاً حسناً، أما الحُسن فهو مصدر هذا الفعل واسم هذه العملية التى تقوم بها، كما تقول فلان عادل، وفلان عدل. يعني: بلغ الغاية في تحقيق العدل حتى جعلته هو والعدل شيئاً واحداً.
إذن: الحُسن أبلغ من الإحسان، وردُّ الإحسان بأحسن منه مبدأ إسلامي، لذلك قال تعالى:
{ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ .. } [النساء: 86].
والحق سبحانه لم يأت بحيثية:
{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً .. } [العنكبوت: 8].
وإنما قال بعدها:
{ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ .. } [العنكبوت: 8] يعني: حتى في وضع المخالفة العقدية حفظ لهما هذا الحق وأكدّ ووصَّى على برِّهما على أحسن ما يكون البر: { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت: 8] وفي الآية الأخرى قال: { فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً .. } [لقمان: 15].
قالوا: لأن الآباء على قسمين: أب يكون في حاجة إلى ولده ليعيش، وأب لا يحتاج لولده يعني: غني بنفسه، فمَنْ كان في حاجة فعليك أنْ تصاحبه بالمعروف يعني: تُعينه وتقيم حياته إقامة كريمة، ومَنْ كان غنياً بنفسه فهو وشأنه، ومردُّ الجميع إلى الله.
وهنا في الآية التي معنا لم يقل حُسْناً ولا إحساناً، بل ذكر حيثية الوصية فقال: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً .. } [الأحقاف: 15] فحدَّد هنا مُدة الحمل مع الرضاعة جملة واحدة، وفي آية أخرى قال عن الرضاعة وحدها:
{ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ .. } [لقمان: 14].
إذن: كلّ آية أخذتْ لقطة، وبجمع الآيتين أمكننا أنْ نحلَّ بعض الإشكالات في مسألة مدة الحمل ومدة الرضاعة.
فقد رُوي أن سيدنا علياً رضي الله عنه دخل على سيدنا عمر وعنده امرأة يريد أنْ يقيم عليها حد الزنا لأنها ولدت لستة أشهر وهي في بيت زوجها، والمشهور عندهم أن مدة الحمل تسعة أشهر.
فقال علي: على رسْلك يا ابنَ الخطاب، ثم قرأ عليه هذه الآية: { وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً .. } [الأحقاف: 15] وقال في الآية الأخرى:
{ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ .. } [لقمان: 14].
وبطرح العامين من الثلاثين شهراً يكون من الجائز أنْ تكون فترة الحمل ستة أشهر، وهي أقل فترة ممكنة للحمل.
لذلك قال عمر: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن، نعم لأن علياً رضي الله عنه اشتُهر بالعلم والفتوى، لأنه دخل الإسلام وهو صبيّ، وشرب من معين النبوة منذ صغره، فكانت ثقافته من بدايتها ثقافة إسلامية، فكأن الخميرة الثقافية عنده منذ صِغَره إسلامية، في حين كان غيره أصحاب ثقافة جاهلية.
ومن فقه الإمام علي وإلمامه بمسائل الشرع لما انتقل سيدنا رسول الله إلى ربه عز وجل، اجتمع المهاجرون والأنصار في السقيفة، ودارت بينهما مناقشات كُلٌّ يريد أنْ تكون له الخلافة بعد رسول الله، وتطلَّع الأنصار إلى ذلك، ثم قالوا: منا أمير ومنكم أمير.
فلما بلغ ذلك سيدنا علياً قال: لم تُحسنوا حجاجهم. قولوا لهم أي للأنصار: ألم تسمعوا قول رسول الله
"إذا ملكتم فاستوصوا بالأنصار خيراً" إذن لو كانت الإمارة فيهم لم تكُنْ الوصية بهم.
ومن المسائل الطريفة التي كانت بين علي وعمر أن علياً دخل عليه فوجده مُغْضباً، فقال: ما أغضبكَ يا أمير المؤمنين؟ قال: سألتُ حذيفة: كيف أصبحتَ يا حذيفة؟ فقال: أصبحتُ أحب الفتنة، وأكره الحق، وأصلي بغير وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء.
فضحك عليّ وقال: صدق يا أمير المؤمنين، فقال: أتقولها يا أبا الحسن؟ قال: نعم، هو يعني: أصبح يحب ماله وولده، وقرأ:
{ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ .. } [التغابن: 15].
ويكره الحق، يعني: الموت، ومَنْ منَّا يُحبه يا أمير المؤمنين، ويصلي بغير وضوء، يعني: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.
وله في الأرض ما ليس لله في السماء. أي: له زوجة وولد. والعجيب أنْ نسمع في زماننا مَنْ يُقلل من شأن هؤلاء، بل يريد أنْ يلغي شخصيات أبي بكر وعمر وعلي من تاريخنا.
ثم نلاحظ أيضاً في هذه الآية أن الحق سبحانه قال: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً .. } [الأحقاف: 15] أي: كارهة أو على مشقة، وفي الآية الأخرى:
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ .. } [لقمان: 14].
والوهَن أي الضعف نتيجة الحمل والولادة، أما الكراهية لهذه المسألة فتأتي من أن النساء لها طبائع مختلفة، فمنهن مَنْ تحب هذه العملية، ومنهن مَنْ تكرهها لكن تطيع زوجها وهي كارهة ثم تتحملّ بعد ذلك مشاقّ الحمل والوحم ثم الآم الوضع، وبعد الولادة تنشغل بالمولود وتحنو عليه.
في حين ينشغل الوالد بالسَّعي وطلب الرزق، لذلك يغلب على الرجل العقلانية وعلى المرأة العاطفة كلّ حسب مهمته في الحياة.
لذلك يخطىء البعض في فهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم
"عن المرأة وأنها خُلقَتْ من ضلع أعوج، وأعوج ما في الضلع أعلاه فإنْ رُحْتَ تقيمه كسرته، وكسْرها طلاقها" .
وحين نتأمل هذا الحديث نجد اعوجاج الضلع لحكمه، لأن الضلوع خُلقَتْ لتصون أثمن وأهم جهازين في الجسم هما القلب والرئتان، ولو كان الضلع معتدلاً ما أدَّى هذه المهمة.
وهل نقول مثلاً عن الخطاف أنه أعوج، أو أن اعوجاجه عَيْب فيه؟ أبداً لأن طبيعة عمله ومهمته تقتضي أنْ يكون على هذا الشكل، إذن: شبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة بالضلع، لأن مهمتها العطف والحنان.
الحق سبحانه لمَّا وصانا بالوالدين أتى بحيثيات الوصية بالأم، ولم يذكر شيئاً من حيثيات الوصية بالأب، قالوا: لأن دور الأم جاء في زمن ليس للطفل فيه إدراك يدرك به دور أمه وفضلها في مرحلة الحمل والولادة والرضاعة.
أما دور الأب من الإنفاق والرعاية فيأتي في زمن الطفلُ فيه مدركٌ لجميل والده، فاهم لدوره في تربيته والقيام على أمره، لذلك احتاج الولد أنْ نُذكِّره بدور أمه وفضلها، لأنه غير مدرك له، أما دور الوالد فهو يعرفه.
ما دُمْنا بصدد الحديث عن دور الوالدين في التربية فلا بدّ أنْ نذكر قوْلَ الحق سبحانه:
{ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [الإسراء: 24] فهذه الآية تعطينا منهج التربية العام لكل الأطفال.
فالوالدان استحقا هذه الوصية لأمرين أنهما سببُ الوجود المباشر الذي يُذكِّرك بسبب الوجود الأعلى، وهما يقومان بالتربية فيُذكِّرانك بالمربِّي الأعلى سبحانه.
فالله ربّ ومُربٍّ، خلقنا من عدم وأمدَّنا من عُدْم، فهو الذي ربّانا وأمدنا بأسباب التربية. إذن: الوصية بالإحسان إلى الوالدين تُعطينا دُرْبة على الإحسان في علاقتنا بالله خالقنا ومُربِّينا.
ثم نفهم من هذه الآية أيضاً أن التربية وحدها سببٌ وحيثيةٌ للإحسان، فقد يُربِّي الطفل غير والديه فيكون لمَنْ ربَّاه فضل عليه يستوجب الإحسان لأنه قام بشطر العملية.
فالوالد والوالدة لهما فضل الإيجاد، والمربِّي له فضل التربية وله نصف الثواب، وهذه المسألة تُشجِّع على كفالة الأيتام وتربيتهم ابتغاء وجه الله.
فمَنْ مات أبوه فالمجتمع كله أبوه، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
"أنا وكافل اليتيم كهاتين فى الجنة" .
لأن الأب لو مات وترك أولاداً إذا لم يجدوا من المجتمع مَنْ يرعاهم ويكون لهم والدا بدلاً عن والدهم، إذا لم يجدوا هذا نشأ عندهم حقدٌ على باقي الأولاد وحقد على المجتمع كله، وربما تعدَّى ذلك إلى التمرد على الله الذي كتب عليهم اليُتْم.
وكلمة
{ كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [الإسراء: 24] تعني أن التربية لها وقت هو وقت الصِّغَر، لذلك أذكر أنني دُعيت لإلقاء محاضرة بعنوان.
تربية الشباب، وكانت في إحدى جامعاتنا لكن قبل أنْ أبدأ المحاضرة قُلت: أستأذن السيد مدير الجامعة في تغيير عنوان المحاضرة لأن الشباب لا يُربَّى، الشباب طاقة تُستغل في حركة الحياة، الشباب تربَّى بالفعل.
فلو قُلْنا تربية الشباب كان هذا العنوان غير صحيح، بل تربية الطفولة أو النشء، لأن الطفولة هي العجينة التي تقبل التشكيل دون أنْ تعترض، أما الشباب فقد تم تشكيلهم، لذلك يعترضون ولهم (تتنيحة) حين تُوجه له نقداً أو توجيهاً.
لكن الشباب الموجودين بالجامعة قالوا: نحن رُبِّينا خطأ فاستأنفوا تربيتنا من جديد. فقلت لهم: إذن فاستأنفوا معنا طفولتكم وتقبَّلوا التوجيه والنقد دون أن تعترضوا، كونوا مثل المريض بين يدي الطبيب يقبل ما يقول دون مناقشة.
ومن أخطائنا في التربية أننا نطيل فترة الطفولة عند أولادنا، فالأسرة تظل تحتضن الابن وتُنفق عليه حتى سنِّ العشرين والخامسة والعشرين. لذلك فاقنا الغرب في هذه المسألة، فالولد عندهم حين يصل سِنَّ البلوغ يستقل عن أسرته وينفق على نفسه حتى لو كان أبوه مليونيراً.
وبذلك كثُرتْ الأيدي العاملة، وقلَّتْ البطالة، وزاد الإنتاج، وهذه كلها وسائل للتقدم نفتقدها نحن، ولم نتمكن حتى الآن من استغلال طاقات الشباب.
إنك لو ذهبتَ إلى عاصمة من عواصم الغرب فلن ترى هناك الشباب يملأ الشوارع والنواصي، ولن تجد (قهاوي) تمتلئ بالعاطلين، لكن تراهم في وقت الراحة يخرجون كالجراد لتناول الغداء، لكن الخطأ الذي وقعوا فيه أنهم عمَّموا هذا الحكم على الفتى والفتاة.
وكلمة
{ رَبَّيَانِي .. } [الإسراء: 24] للمثنى يعنى: الوالد والوالدة، فلكلٍّ منهما دوره في التربية، فالأب يجلب، والمرأة تدبر وتقوم على شئون بيتها.
فهما إذن شركاء في هذه المسألة، ووجود المرأة بصفة عامة في البيت يجعل تأثيرها أقوى من تأثير الرجل في عملية التربية، ولذلك حينما نهتم بالتربية النوعية نعطي الولد ما يناسبه، ونعطي البنت ما يناسبها.
لذلك يجمل بنا الآن أنْ نذكر وصية الأم العربية لابنتها، وهي تُجهزِّها للانتقال إلى بيت الزوجية، فتقول لها: أيْ بُنية إن الوصية لو تُركت لفضل أدب لتركت لذلك منك، ولكنها تنبيه للغافل ومعونة للعاقل.
أيْ بُنية، إنك غداً تفارقين البيت الذي فيه نشأتِ والعش الذي فيه درجت إلى بيت لم تألفيه، وقرين لم تعرفيه، فكوني له أَمَة يكُنْ لك عبداً.
أيْ بُنية: لو أن المرأة استغنتْ عن الرجل لغنَى أبويها وعدم حاجتها إلى غيرهما لكنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خُلِقْنَ، ولَهُنَّ خُلِق الرجال.
أيْ بُنية احفظي عني عَشْر خصال تكُنْ لك ذخراً: أما الأولى والثانية: فالمعاشرة له بالقناعة وحُسْن السمع له والطاعة، وأما الثالثة والرابعة فالتفقد لمواقع عينيه وأَنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإنَّ تواتر الجوع مَلْهبة، وتنغيص النوم مغضبة، وأما السابعة والثامنة فالاحتراس لماله والإرعاء على حَشَمه وعياله.
ومِلاك الأمر في المال حُسْن التقدير، وفي العيال حُسْن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصِنَّ له أمراً ولا تُفشِنَّ له سراً، فإنك إن خالفتِ أمره أوغرتِ صدره، وإنْ أفشيتِ سِره لم تأمني غدره.
ثم إياك والفَرح بين يديه إذا كان مُهتماً أو الكآبة بين يديه إذا كان فَرِحاً.
هذه وصية أمامة بنت الحارث لابنتها أم أُناس بنت عوف بن مُحَلِّم الشيباني، وهذه الوصية كانت قبل الإسلام، ومع ذلك فيها من الآداب والنصائح ما إنْ أخذت به الزوجة في عصرنا الحاضر لحُلَّتْ معظم المشاكل الأسرية التي تمتلئ بها المحاكم اليوم.
ولو ربّتْ كلُّ أم ابنتها على هذه الآداب لانصلح حالنا، لكن الواقع أننا تركنا هذه النصائح وغفلنا عن العمل بها في بيوتنا، بل وتركنا البيوت للخادمات، وتركنا التربية لغير أهلها حتى صِرْنا إلى ما نحن فيه.
وقوله سبحانه: { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ .. } [الأحقاف: 15] هذا طور آخر من أطوار الحياة هو طور البلوغ { بَلَغَ أَشُدَّهُ .. } [الأحقاف: 15] أي: بلغ الغاية في اكتمال الجسم والقوة والعقل.
ومن ذلك قوله تعالى في سيدنا يوسف:
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 22] وقال في سيدنا موسى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } [القصص: 14].
إذن: بلوغ الأشُدّ والاستواء واكتمال البدن والجسم والقوة واكتمال العقل هو بداية إلقاء الحكمة وهو بداية التكليف، فلو كلّف قبل البلوغ ثم طرأ عليه البلوغ ومرحلة المراهقة وما تفعله من تغيرات بالجسم ربما يقول العبد: لقد طرأ عليَّ تغيرات لم تكُنْ في بالي عند الإيمان بك؛ لذلك أجّل العملية كلها حتى سنِّ البلوغ، وهو منتهى النضج.
ومنتهى النضج في الإنسان أنْ يصيرَ قادراً على إنجاب مثله، كذلك الحال في الثمار مثلاً، قلنا: إن البطيخة لا تحلو للأكل إلا إذا استوى لُبُّها واسودَ بحيث إذا زرعْتَه يعطيك نباتاً جديداً، فإذا أكلتَ هذه ضمنت لك وجود غيرها.
لكن إذا حلت ولبُّها غير مُستو أكلتها ثم تزرع اللب فلا ينبت، إذاً هنا حكمة لبقاء النوع.
لذلك يقول تعالى:
{ ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ .. } [الأنعام: 99] كلمة (ينعه) أنك تضمن أنْ تأتي بشجرة جديدة. كما أنك تلاحظ في الشجر المثمر أنك إذا لم تقطف الثمار تقع هي بطبيعتها.
ومن حكمة الخالق سبحانه وعجائب الخلق أنك في مرحلة النمو وقبل سِنِّ البلوغ تجد أن عملية النمو تتم بحساب وإعجاز محكم، فأشياء في الجسم تنمو ومثيلاتها في الجسم لا تنمو.
خذ مثلاً الشعر ينمو ونقصه من حين لآخر، أما شعر الحاجبين مثلاً والرموش فلا ينمو، كذلك العظام تنمو بنمو الطفل إلى أنْ يبلغ الأشُدّ، في حين أن الأسنان وهي أيضاً عظام تقف عند شكل معين ولا تنمو، ولو كانت تنمو كنمو باقي العظام لصارتْ مثل ناب الفيل.
إذن: المسألة ليستْ كما قلنا (ميكانيكا) إنما هي (هندسة) من مبدع هذا الكون سبحانه.
{ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ .. } [الأحقاف: 15] لأن سنَّ الأربعين هي السنّ التي ينبغي أنْ يقف الإنسان عندها ويحاسب نفسه ويُصحِّح مساره.
سِنَّ الأربعين هو قمة النضج العقلي، وهي أيضاً بداية الانحدار نحو النهاية، لذلك يلفت الحق سبحانه نظرنا إلى الأربعين بالذات لنقف ونتدارك ما كان.
كلمة { أَوْزِعْنِيۤ .. } [الأحقاف: 15] يعني: ألهمني وأعنِّي وقوِّني { أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ .. } [الأحقاف: 15] بداية من نعمة الإيجاد، ونعمة السلامة والعافية، ونعمة الإسلام، ونعمة التوفيق للطاعة، ونعمة أن جعلت لي أباً وأماً قاما على تربيتي.
ثم يُعدّي الشكر إلى الوالدين { وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ .. } [الأحقاف: 15] لأن النعمة عند الوالد نعمة عند ولده { وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ .. } [الأحقاف: 15] أي: وفِّقني وأعنّي على العمل الصالح.
والعمل الصالح هو الاستقامة بتنفيذ الأمر واجتناب النهي فيما ورد فيه نصّ، أما ما لم يرد فيه نصّ فَلَك الحرية تفعل أو لا تفعل.
{ تَرْضَٰهُ .. } [الأحقاف: 15] يعني: بأنْ يكون هذا العمل وفق المنهج الذي شرعتَ، أو ترضاه فتقبله، أو تثيبني عليه.
{ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ .. } [الأحقاف: 15] دعاء بأنْ يجعل صلاحه ممتداً في ذريته، أو أنني يا رب أسرفتُ على نفسي وقصّرْتُ، ولا أريد ذلك لذريتي، أريد لها الصلاح الذي لم يتحقق لي.
وهذا مبدأ معروف أن الأب يحب أنْ يتدارك ما فاته في حياته يُحقِّقه في حياة أولاده، وذريته من بعده، يريد أنْ يحقق فيهم الكمال الذي لم يصل هو إليه، لذلك يكون الإنسان سعيداً لو تفوّق ولده عليه.
وتأمل الفعل { وَأَصْلِحْ .. } [الأحقاف: 15] تجده يتعدّى بنفسه، فلماذا ذكر (في) فقال { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ .. } [الأحقاف: 15] ولم يقل: وأصلح لي ذريتي؟ ما الضرورة لذلك؟ الأسلوب هنا كأنه جعل الذرية ظرفاً للإصلاح، وظرفُ الإنسان قَلْبه.
لذلك ورد في الحديث الشريف:
"ألا إن في الجسد مُضغة إذا صلُحَتْ صَلُح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" إذن: عدّاها بـ (في) ليجعلها ظرفاً ومظروفاً.
وقوله: { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الأحقاف: 15] التوبة باب مفتوح إلى آخر العمر، لكن ينبغي ألاّ تُؤخر وألاّ نغفل عنها إذا كنا أسرفنا على أنفسنا، لكن البعض منا تأخذه الدنيا وتنسيه نفسه فيؤخر التوبة والتصالح مع ربه إلى هذه السن.
لذلك ورد في الأثر:
"إن الله يجرى يده على وجه العبد بعد الأربعين إنْ لم يتب فيقول: أمَا آنَ لهذا الوجه أنْ يستحي" .
وفي معنى حديث آخر يقول: "مَنْ بلغ الأربعين ولم يكُنْ خيره أكثر من شرِّه، فليجهز نفسه - والعياذ بالله - لجهنم" .
لماذا؟ لأنك أخذتَ راحتك في شبابك، وأشبعتَ رغبتك ممّا تريد، لكن إذا وافيتَ الأربعين فاستح أنْ تعصي الله بعدها، واستحِ أن تؤجل التوبة وأنت لا تضمن عمرك بعدها.
وكلمة { وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الأحقاف: 15] تعني: أن العطل أو التقصير لم يكُنْ في العقيدة، إنما في تنفيذ مطلوب العقيدة في الأحكام.