التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٣٤
-الأحقاف

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذه لقطة أخرى لمسألة العرض على النار والعياذ بالله، فقبل هذه قال سبحانه: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا .. } [الأحقاف: 20] فذكر لهم علة عَرْضهم على النار، وهي استنفاد الطيبات كلها في الدنيا، بحيث لم يبق لهم شيء في الآخرة.
لذلك قلنا: إن النعمة التى تشغل صاحبها عن المنعم هي في الحقيقة نقمة عليه ووبال، والنعمة حقيقة هي التي تُذكِّرك بالمنعم، لذلك علَّمنا سيدنا رسول الله حينما نرى نعمة عندنا أو عند غيرنا أن نقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
فترد الفضل إلى صاحبه وتبرىء نفسك من الغرور، ونسبة النعمة إلى نفسك، وأنها جاءت بفضل مهارتك وشطارتك، كما حصل من قارون فقال:
{ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ .. } [القصص: 78].
فكانت النتيجة:
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ .. } [القصص: 81] وكأن الحق سبحانه يقول له: ما دُمْتَ أوتيته على علم عندك فاحرسه بعلم من عندك أيضاً.
"يُرْوى أن سيدنا عمر رضي الله عنه دخل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده ينام على حصير قد أثَّر في جنبه، ولم يجد عنده شيئاً يلفت نظره من متاع الدنيا، فتألم لحال رسول الله ولم يستطع إخفاءَ ما في نفسه.
فقال: يا رسول الله ادع الله أنْ يُوسِّع على أمتك كما وسّع على فارس والروم، فنظر إليه رسول الله وقال: أفِي شَكّ أنت يا بن الخطاب؟ هؤلاء قوم عجلتْ لهم طيباتهم فى حياتهم الدنيا"
.
وذكرنا قول عمر بن عبد العزيز: والله لو شئتُ أنْ أكون أطيبكم طعاماً، وأحسنكم لباساً لفعلتُ، ولكني أستبقي، لذلك قال تعالى: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } [الحاقة: 24].
إذن: من ذكر الجزاء واستحضر نعيم الآخرة هانتْ عليه مشقةٌ الطاعة في الدنيا، كالتلميذ الذي يذاكر ويسهر ويحرم نفسه لذة الراحة شَوْقا إلى لذَّةٍ أعظم هي لذة النجاح.
قوله تعالى: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ .. } [الأحقاف: 34] الخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. و(يوم) ظرف زمان يعني: اذكر يوم يُعرض الذين كفروا على النار وذكِّرهم به. وقُلْ لهم: { أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ .. } [الأحقاف: 34] أي: الحق الذي كنتم تُكذِّبونه ها هو أصبح واقعاً.
وسبق أنْ بيَّنا أن العلم ثلاث مراحل: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فالإخبار عن الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب علم يقين، ثم حين نرى هذا الجزاء يصير عين اليقين، ثم حين نباشره ويدخل أهلُ الجنة الجنةَ وأهلُ النار النار يصير حقّ اليقين.
وهذه المراحل ذُكرتْ في موضعين في قوله تعالى:
{ أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ } [التكاثر: 1-8].
أما حق اليقين فذُكِر في قوله تعالى:
{ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [الواقعة: 92-96].
وقوله: { قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا .. } [الأحقاف: 34] هذا جوابهم على السؤال { أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ .. } [الأحقاف: 34] والجواب بـ (بَلَى) هنا يعني نعم، لأن نفي النفي إثبات، نعم هذا هو الحق الذي كُنَّا نكذبه ولا يكفيهم الإقرارُ به، بل ويُقسمون أيضاً لتأكيد المسألة.
{ بَلَىٰ وَرَبِّنَا .. } [الأحقاف: 34] لأنهم عاينوه وباشروه، ثم يأتي الحكم النهائي { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [الأحقاف: 34] أي: بسبب كفركم.