التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ
١٥
-محمد

خواطر محمد متولي الشعراوي

كلمة { مَّثَلُ .. } [محمد: 15] تقال بكسر الميم، حينما تُشبِّه مفرداً بمفرد. تقول: هذا مِثل هذا، وبالفتح حينما تُشبِّه صورة لها أجزاء بصورة أخرى لها أجزاء، لذلك هنا يقول تعالى: { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ .. } [محمد: 15] يفتح الميم، لأنها تمثل جمعاً وصورة كلية لها عناصر وأجزاء متعددة.
اقرأ قوله تعالى:
{ مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا .. } [الكهف: 45] أي: بما فيها من الميلاد إلى الموت { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [الكهف: 45].
والمثل تشبيه تلحق فيه مجهولاً لك بمعلوم عندك، لذلك سيدنا رسول الله لما سُئِلَ عن أوصاف سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام شبَّههما بما هو معلوم للصحابة، فقال: أما موسى فرجل طوال كأنه من رجال أزد شنوءة، وهي معروفة عندهم، وأما عيسى فكثير خيلان الوجه - يعني في وجهه حسنات كثيرة - يقطر وجهه ماءً كأنما خرج من ديماس يعني: من حمام، وأشبهه من أصحابي عروة بن مسعود الثقفي، إذن: شبَّه المجهول بما هو معلوم.
كذلك ضرب رسول الله لنا الأمثال ليوضح لنا أمور الدين، فقال في حديثه:
"أنما مثَلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبُّهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلَّتون من يدي" .
وكلمة { ٱلْجَنَّةِ .. } [محمد: 15] في أصلها تعني الشيء المستور ومنها الجن، وجنَّ الليل، حتى جنة الدنيا تحمل هذا المعنى، لأنها قطعة الأرض المليئة بالأشجار متشابكة الأغصان بحيث تستر وتُخفي ما فيها، أو تجنّ صاحبها يعني تستره وتمنعه من الخروج منها حيث توفر له كلَّ متطلبات حياته.
والحق سبحانه ضرب المثل بها:
{ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ .. } [البقرة: 265].
وقال:
{ وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ... } [الكهف: 32].
والفرق بين الجنتين أن جنة الدنيا من صُنع البشر ومباشرة الأسباب في الحرث والزرع، أما جنة الآخرة التي وعدها الله المتقين فهي قائمة بلا أسباب، قائمة بقدرة المسبِّب، لذلك حدث اختلاف في الجنة التي دخلها سيدنا آدم عليه السلام: أهي جنة الدنيا، أم جنة الآخرة؟
حينما نقرأ هذه القصة في كتاب الله نعلم أنها جنةُ الله جنة الآخرة، بدليل أنه لم يحرث فيها ولم يزرع، ولم يباشر أسباباً، إنما أكل مما أعده اللهُ له، وكان في أمان ذاتي مدة إقامته على طاعة أمر الله في الأكل.
فلما أغواه الشيطان أنْ يأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها حدث له تغيُّر في الوضع الطبيعي الذي كان فيه، ورأى من نفسه مسألة الإخراج التي لم يألفها من قبل، وتنبه إلى عورته وراح يسترها بورق الأشجار هو وزوجه.
وكانت هذه المسألة عملية تدريب لآدم على احترام المنهج وعدم الخروج عليه، ونحن نفهم أيضاً كذلك أنه لا تظهر عورة في المجتمع المسلم إلا حين يحدث انحراف عن المنهج، وآدم عليه السلام لم يكُنْ رجلاً عادياً، إنما كان نبياً رسولاً، فأراد الحق سبحانه أنْ يعلمه الدرس بصورة عملية.
وقوله تعالى: { وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ .. } [محمد: 15] أي: وعدهم الله بها ووَعْد الله حَقٌّ نافذ، لأنه إله واحد ليس معه شريك يعارضه، ولا توجد قوة تحول بينه سبحانه وبين إنفاذ ما وعد، كما يحدث مثلاً في وعد البشر بعضهم لبعض، لأن البشر يطرأ عليهم التغيير ويلحق بهم الموت.
أما الحق سبحانه فهو الدائم الباقي وهو الحق.
والجنة وَعْد الله لا يعد بها غيره، يعد مَنْ؟ يعد بها المتقين، والمتقي هو الذي يسير وفق منهج الله، وأنْ يَجعل بينه وبين عذاب الله وقاية، ولا يكون ذلك إلا باتباع المنهج وعدم اتباع الشيطان والهوى.
قال تعالى:
{ ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 268].
ووعَدْ الله وعد الصدق ووعد الحق قال تعالى:
{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } [النساء: 122].
قوله تعالى: { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ .. } [محمد: 15] يعني: أن هذا الوصف ليس وَصْفاً للجنة، لكن مثل يُقربها للأذهان، لأنه لو أراد أن يعطينا وصفاً للجنة على حقيقتها لن يصل إلى ذلك إلا من خلال الألفاظ التي تعبر عن المعاني.
ومعلوم في اللغة أن المعنى يُوجد أولاً، ثم نضع له اللفظ الدال عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم لما وصف لنا الجنة قال:
"فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر" .
أولاً: تأمل في الحديث هذا الترقي في الحواس والإدراكات، فالعين ترى ما كان في مجال الرؤية، أما الأذن فتسمع ما تراه أنت وما يراه غيرك، وأوسع من هذا كله ما يخطر بالبال أو القلب.
فإذا كنا لا نصل بإدراكاتنا إلى ما في الجنة، ولا حتى يخطر لنا على بال، فكيف نصفه؟ وكيف نضع له الألفاظ المعبِّرة عنه؟
إذن: هذا ليس وصفاً لحقيقة الجنة، إنما مجرد مثل يقربها من أفهامنا، لذلك قال تعالى عن الجنة:
{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ .. } [السجدة: 17].
إذن: فيها أشياء لا نعرفها، فكيف نضع لها أسماء؟ لذلك نقربها بمثَل مما نعرفه في الدنيا.
ففيها كما في الدنيا ماء ولبن وخمر وعسل، لكنه مُشذّب، ومُصفّى من كل ما يشوبه، فلا يشبه نعيم الدنيا إلا في الأسماء { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ .. } [محمد: 15].
فماء الدنيا يأسن ويعطن وتتغير رائحته، أما ماء الجنة فماء غير آسن، وبدأ بالماء لأنه الأصل في الارتواء من العطش، وبه ينضج الطعام، وبه تتم نظافة الإنسان، بل هو عنصر أساسي في خلق كل كائن حي، قال تعالى:
{ وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ .. } [الإنبياء: 30].
وإذا كنا نعرف أن مصدر الماء العذب في الدنيا هو البحار، وبعملية البخر وتكوّن السحب يُنقّى من الملوحة فيصير عذباً صالحاً، فماء الجنة لا نعرف مصدره.
قال الله عنه
{ مَآءً طَهُوراً .. } [الفرقان: 48] لا تشوبه شائبة، ولا تلحق به مُلوِّثات تفسده، إذن: نعمة لا يُنغِّصها شيء ولا تشوبها شائبة، لأنك في الدنيا تعيش بأسبابك التي خلقها الله لك.
ومنا مَنْ يعكر صفو هذه الأسباب، أما في الآخرة فأنت تعيش بالمسبِّب سبحانه مباشرة، أنت تستضيء في الدنيا بالشمس نهاراً، وبالقمر والنجوم ليلاً، أما في الآخرة فلا شمسَ ولا قمر ولا نجوم، إنما تعيش بنور الله
{ وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا .. } [الزمر: 69] يعني: بلا أسباب.
كذلك الماء تأخذه في الدنيا بالأسباب، وفي الجنة بلا أسباب، واقرأ قوله تعالى عن الماء في الدنيا:
{ وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ .. } [الحجر: 22].
وقال عن ما ء الجنة:
{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [الإنسان: 21].
وفرْق في المعنى بين (أسقى) و(سقى): أسقى: أوجد الماء الذي نستقي منه إنْ أردنا السُّقْيا. فينزل الماء من السحاب فنحجزه وراء السدود حتى نحتاج إليه، لكن (سقى) باشر السُّقيا بالفعل.
ومن العجيب في أنهار الجنة أنها ليس لها شُطآن، وأنها متداخلة دون أنْ يختلط بعضُها ببعض، ولا تسأل هنا عن كيفية ذلك، لأن هذا النعيم لا يقوم بالأسباب التي نعرفها، بل بالمسبِّب سبحانه، فلا يحكم عليها حكمك على مثلها في الدنيا. وقوله: { فِيهَآ .. } [محمد: 15] أي: أنها ظرف لهذه الأنهار.
{ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ .. } [محمد: 15] ولبن الدنيا يتغير طعمه بمرور الوقت ويفسد { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ .. } [محمد: 15] نعم أنهار من خمر مُعدَّة وجاهزة، ليس هناك عنب يُعصر، إنما بكُنْ فيكون.
وإذا كانت خمر الدنيا مُحرَّمة، وتذهب بالعقل ولها رائحة كريهة، فخمر الآخرة لها لذة عند شربها ولا تذهب بالعقل، فليس لها من خمر الدنيا إلا اسمها.
وليس في الدنيا أنهار من خمر لأن خمر الدنيا بالأسباب، فهو كميات قليلة بمقدار ما يُعصر من العنب أو غيره، والحق سبحانه لما تكلم عن خمر الدنيا قال:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا .. } [البقرة: 219].
فالمنافع لا قيمة لها إذا ما قورنت بالمضار والحرمة، صحيح هي تُشعرك بشيء من النشوة أو السعادة، وتضحك وتفرح وتنسي همومك، لكنها بعد ذلك تغتال عقلك وتسلبك وقارك.
فإذا أضفتَ إلى ذلك أنها محرمة، وأنها من أكبر الكبائر بان لك ضررها. صحيح فيها ربح لمَنْ يتاجر فيها، لكنه ربح حرام، لذلك جعل الله خمر الدنيا قليلة، أما خمر الآخرة فأنهارٌ لأنها في الآخرة لذة للشاربين.
{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [الصافات: 47] يعني: لا تغتال العقل، ولا ينتج عن شُرْبها أضرار، والنزف هو إخراج شيء من شيء كمن يقيئ مثلاً بعد شربها، أو يصيبه دوار أو صداع.
{ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى .. } [محمد: 15] إذن: ذكر الماء أولاً لأهميته بالدرجة الأولى ثم اللبن، لأنه يُحمل محمل الماء حتى يوجد الماء، وهو عنصر أساسي في الغذاء، ثم ذكر الخمر، لأن الإنسان بعد أنْ يأكل ويشرب يحتاج في كمال السعادة كأساً من هذه الخمر.
أما العسل فيأتي في آخر هذه القائمة لأن الله تعالى قال فيه:
{ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ .. } [النحل: 69] إذن: الميزة التي تُميّز العسل ليست في طعمه وحلاوته، بل في كونه شفاء، والجنة لا مرض فيها. إذن: يشرب في الجنة للذته وجمال طعمه.
ومعنى: { مُّصَفًّى .. } [محمد: 15] ليفرِّق بينه وبين عسل الدنيا الذي لا يخلو من شوائب، لأن الإنسان يجمعه من الجبال، فهي أول مسارح النحل
{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [النحل: 68].
والعالم الأمريكي الباحث في حياة النحل وجد أن نحل الجبال هو أقدم أنواع النحل، وما دام من الجبال فلا يخلو من شوائب، أما عسل الجنة فمصفَّى بقدرة الذي أعدَّه سبحانه.
ثم يقول سبحانه: { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ .. } [محمد: 15] بعد أنْ ذكر الحق سبحانه ما في الجنة من السوائل يذكر ما فيها من الثمرات دون أنْ يسميها لأننا لا نعرفها.
لذلك قال في آية آخرى:
{ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً .. } [البقرة: 25] يعني: ثمار متشابهة، لكن مختلفة المذاق، حتى لما أعطانا مثالاً بالعنب والعموميات، فهي في الجنة غير الذي نعرفه في الدنيا.
وإذا كانت الثمار عندنا لها بيئات تجود فيها ولها مواسم، فثمار الجنة موجودة في كلِّ الأوقات، فالبيئات في الدنيا من الأسباب، أما الآخرة فبالمسبِّب سبحانه.
وقوله تعالى: { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ .. } [محمد: 15] بعد أنْ أعطانا ربنا سبحانه لذة المادة والقالب في الجنة يعطينا لذة أعلى هي لذة نَيْل للمغفرة من الله كرماً وتفضلاً، لأنهم ما دخلوا الجنة إلا بالمغفرة، لكن قد يذكر أحدهم ذنبه فيقول له: أنت مغفور لك.
وقد ورد في الحديث القدسي أنه بعد أنْ يدخل أهل الجنة الجنة يسألهم ربُّ العزة سبحانه:
"أرضيتم يا عبادي؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطينا كذا وكذا فيقول: الآن أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً" .
ثم يضعنا الحق سبحانه أمام هذه المقارنة بين أهل الجنة وأهل النار، فيقول: { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد: 15] يعني: أيهما أفضل، واحكم أنت وسنرتضي حكمك.
هذه هي الجنة أو مثل لها: أتستوي مع مقابلها وهو الخالد في النار؟ { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد: 15] فكما ذكر الماء أولاً في الجنة ذكره أيضاً أولاً في النار والعياذ بالله.
وكلمة { وَسُقُواْ .. } [محمد: 15] ولم يقُلْ شربوا لأن الشرب طواعية واختيار، إنما { وَسُقُواْ .. } [محمد: 15] يعني: رغماً عنهم ودون إرادتهم، مثل ما تعطي الولد الصغير الدواء فتسقيه له على كُرْه منه.
{ مَآءً حَمِيماً .. } [محمد: 15] الماء معروف أنه يُشرب للارتواء ويُشرب بارداً، أما ماء جهنم والعياذ بالله فهو حميم يعني: تناهتْ حرارته، فكيف بهم وهم في النار ويريدون أنْ يُبردوا حرارة أجوافهم فيسقْون الحميم الذي يزيدهم حرارة فوق حرارة النار.
لذلك قال تعالى في آية أخرى:
{ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ .. } [الكهف: 29].
ثم يبين أثر هذا الماء الحميم { فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد: 15] وليتها قطعتْ وانتهت المسألة، إنما هم في عذاب مقيم دائم لا يُفتَّر عنهم.
{ { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ .. } [النساء: 56] والأمعاء جمع معى بكسر الميم، وقد ورد في الحديث الشريف قول سيدنا رسول الله: "المؤمن يأكل في مِعىً واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" يعني: المؤمن يأكل على قدر حاجته أو في أكله وفي طعامه بركة، أما الكافر فيأكل حتى تمتلىء بطنه.