التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
٢
-محمد

خواطر محمد متولي الشعراوي

قلنا: إن المتقابلات يُظهر بعضها بعضاً، وذكر المتقابلات من أسلوب القرآن، ليحدث مقارنة بين الأمرين فتتضح الصورة كما في قوله تعالى: { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13-14].
وهنا يقول في مقابل الذين كفروا { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ .. } [محمد: 2] ولم يقل آمنوا بمَنْ، لأن الإيمان أمر فطري، وساعة يُطلق ينصرف إلى الإيمان بالله، لأنه هو الإيمان الأول.
والفعل آمن يتعدى بالباء تقول آمن به يعني: اعتقد وجوده، ويتعدَّى باللام، تقول آمن له: يعني صدَّقه، وقد يتعدَّى بلا حرف كما في
{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 4] وكلها تؤدي معنى الأمان والاطمئنان والسلام.
وقوله: { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ .. } [محمد: 2] دائماً ما يقرن القرآن بين الإيمان والعمل الصالح، لأن الإيمان عمل القلب، أما العمل الصالح فعمل القالب والجوارح، فمن القلب والقالب يكون الامتثال إيمان قلب للعقيدة، وإيمان قالب لطاعة الأمر ممن يعتقد به.
وسيد الجوارح كلها في الإنسان هو القلب، لأنه الآلة التي تضخ الدم وهو سائل الحياة إلى جميع أجزاء الجسم، فإذا عَمُر القلب بالإيمان ضخَّه إلى كل الأعضاء فاستقامتْ.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
"إن في الجسد مضغة، إذا صلُحتْ صَلْح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" .
عمل القلب أنْ يؤمن بالله وبما يخبر الله به من الغيبيات: يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويؤمن بالقدر خيره وشره، ثم يأتي عمل الجوارح، فالعين لا تمدها إلى محارم غيرك، واللسان لا تشهد به زوراً، ولا تغتب به الناس، ولا تقذف به المحصنات، ولا تحلف به يميناً كاذبة.
والبطن لا تملؤها إلا من الحلال، واليد لا تسرق بها، ولا تقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، والرِّجْل لا تسعى بها إلى محرم.
إذن: كل جارحة لها عمل صالح، ويجب أنْ تجنبها الحرام، وهناك من العمل الصالح ما يشمل كل الجوارح وهو بر الوالدين. لذلك قرنه الله بعبادته فقال:
{ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً .. } [النساء: 36].
وفي سورة العصر بيان لأهمية العمل الصالح بعد الإيمان بالله، فقال تعالى:
{ وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ .. } [العصر: 1-3].
وقوله تعالى: { وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ .. } [محمد: 2] قوله تعالى: { وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ .. } [محمد: 2] بعد { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ .. } [محمد: 2] دل على وجوب الإيمان بالرسل السابقين.
لذلك قال تعالى:
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ .. } [الشورى: 13].
ذلك لأن أصل الدين واحد وهو عبادة الله وحده، فقضية الإيمان واحدة عند كل رسل الله، ومن الإيمان بالله يتفرع الإيمان بالكتب وبالرسل وبالآخرة والحساب، لأنك آمنتَ بالله.
لكن هل يخاطبك اللهُ وحدك ويقول لك: افعل كذا ولا تفعل كذا؟ لا إنما يختار للبلاغ عنه مَنْ يصطفيه من الرسل
{ ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ .. } [الحج: 75].
اصطفى من الملائكة جبريل ليكون آمين وحيه، واصطفى من الناس الرسل والأنبياء، ففرع الإيمان بالله أنْ نؤمن برسل الله كلهم، وأنْ نُسوِّيَ بينهم في التعظيم.
وأذكر أن أحد المستشرقين سألني في سان فرانسيسكو: كيف تبيحون للمسلم أنْ يتزوج كتابية، ولا تبيحون للكتابي أنْ يتزوج بمسلمة؟ لماذا لم تجعلوها كالطعام والشراب؟ قلت لهم: لأن المسلم مؤمن برسول الكتابية، أما الكتابيّ فهو غير مؤمن برسول من يريد أن يتزوجها (المسلمة).
وقوله: { وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ .. } [محمد: 2] أي: ما نزل على محمد هو الحق، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغيّر ولا يتبدَّل، ثم تأتي ثمرة الإيمان { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [محمد: 2].
من رحمة الله بعباده أنْ شرعَ لهم التوبة، وفتح لهم باب الاستغفار، فهو سبحانه خالقهم وأعلم بهم وبما يصلحهم، يعلم أن الإنسان من طبيعته الغفلة.
لذلك قال:
{ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ .. } [المائدة: 15] وشرع لنا الكفارات، فالصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كلها مُكفِّرات للذنوب وكأنها (أوكازيونات) للمغفرة حتى لا نيأس من رحمة الله، ولا نتمادى في المعصية.
فالمغفرة للذنوب رحمة يرحم اللهُ بها عباده حتى لا يدخلوا من باب اليأس وتنتشر المعصية وتستشري بين الناس.
وقوله: { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [محمد: 2] كل المفسرين يقولون يعني: أصلح حالهم كله النفسيّ والمعنوي والمادي، لكن فَرْق بين بال وحال: البال هو في الواقع الخاطر الذي يخطر في العقل، تقول: هذا الشيء في بالي يعني: في عقلي لا يفارقني، والإنسان عادة ما يشغل باله بالحالة التي هو فيها، فالطالب مثلاً: يشغل باله بالنجاح والرسوب والكلية والعمل بعد التخرج، فمَنْ أصلح الله باله انصلح حاله.