التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً
٢٧
-الفتح

خواطر محمد متولي الشعراوي

الحق سبحانه وتعالى يقصّ علينا قصة شوق المسلمين للبيت بعد أن اغتربوا عن مكة مدة طويلة واشتاقوا لأداء العمرة وللطواف بالبيت، ولكن حمية الجاهلية وطيشها وغرورها بقوتها الكاذبة حالتْ دونهم ودون ما يريدون.
والحق سبحانه حينما يتكلم في هذه المسألة يتكلم عنها على أنها رؤيا سبقتْ واقع القصة، والرؤيا كما تعلمون ما يراه النائم من أشياء، قد يكون لها واقع وقد لا يكون.
والرؤيا تحدَّث القرآن عنها في قصة سيدنا يوسف عليه السلام:
{ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف: 4].
وقد وقف المستشرقون عند هذه الآية، واعترضوا على أسلوب القرآن في تكرار الفعل (رأى) في هذه الآية
{ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف: 4].
والمتأمل في القصة وتفاصيلها لا يجد تكراراً، لأن كلَّ فعل منهما له دلالة ومعنى، فالأول قال:
{ رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ .. } [يوسف: 4] ولم يقُلْ: ساجدين. وفي الأخرى قال: { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ... } [يوسف: 4].
وهذا يعني أن الرؤيا الأولى غير الأخرى، الأولى رآهم بلا سجود، رأهم في وضعهم الطبيعي، ثم رآهم في حالة السجود، لأنك لا تعرف الشمس مثلاً ساجدة إلا إذا عرفتها غير ساجدة ثم طرأ عليها السجود.
إذن: لابدَّ من تكرار الفعل هنا مرة لغير السجود، ومرة أخرى للسجود، يعني فوجىء بها تسجد، ولو قال: رأيتها ساجدة بدايةً لقُلْنا: كيف؟ لأن السجود لا يكون إلا بحركة ساكن وتحرّك بالسجود.
إذن: الحق سبحانه لا يضع لفظاً إلا لغاية ومعنى، ولِلَقْطَة لابدَّ منها.
ولما قَصَّ يوسف على أبيه هذه الرؤيا قال:
{ قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً .. } [يوسف: 5] لأن سيدنا يعقوب عليه السلام علم أن هذه الرؤيا تعني علو شأن يوسف على إخوته، وإذا كانوا قد حقدوا عليه لاهتمام أبيه به أو منحه بعض العطف أكثر منهم.
فكيف إذا قصَّ عليهم هذه الرؤيا؟ كيف إذا عرفوا أن الملأ الأعلى من المخلوقات سجدوا له؟
كذلك هنا رؤيا { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ .. } [الفتح: 27] فكأن سيدنا رسول الله قد رأى رؤيا هي { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ .. } [الفتح: 27].
وقد قصَّ رسول الله هذه الرؤيا على أصحابه، فاطمأنوا إلى دخولهم مكة وآداء العمرة، كذلك لما منعهم سفهاء قريش من دخول مكة تعجبوا واعترضوا على منعهم من الدخول.
وسيدنا عمر يقول لسيدنا رسول الله: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلِمَ نُعط الدنية في ديننا؟
صحيح هم على الحق وجاءوا على شوق للبيت، لكن إنْ دخلوا مكة غصباً ودون رضا أهلها ستقوم بينهم معركة. وقلنا: إنها ستصيب جماعة من المسلمين في مكة لم يعلنوا عن إسلامهم كما ذكر في الآية السابقة.
لذلك قال الحق سبحانه بعدما { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ .. } [الفتح: 27] فالحق سبحانه أخبر نبيه بالرؤيا وصدَّقها في الواقع، لكن لم تحدث بعد، لأن الله يعلم من واقع الأمر ما لا تعلمون، لذلك أجَّل العمرة هذا العام، وجعل الرسول يعقد معاهدة الصلح بينه وبين كفار مكة على أنْ يؤدوا العمرة العام المقبل.
واقرأ قوله تعالى: { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ .. } [الفتح: 27] ولم يحدد لها زمناً، فلو قال قائل مثلاً: ألم تقُلْ أننا سنؤدي العمرة وندخل المسجد الحرام يقول له: ليس بالضرورة هذا العام.
والمتأمل في ألفاظ الآية يجدها تدل على هذا المعنى، وأن العمرة لن تكون هذا العام، نفهم هذا من معاني الكلمات { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ .. } [الفتح: 27].
فلو دخلتم دون إذن قريش ورضاها لن يتحقق لكم هذا الأمن، فسوف يقاتلونكم ويعتدون عليكم، حتى لو سمحوا لكم بالدخول فلنْ يتحملوا رؤيتكم وأنتم تطوفون بالبيت، وسوف تأخذهم حمية الجاهلية لابدَّ.
ثم قال: { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ .. } [الفتح: 27] وهذا أمن آخر بعد أداء العمرة، لأن قريشاً كانت إذا دخل أحد الحرم لنُسك لا يتعرضون له، لكن يعتدون عليه بعد أنْ يفرغ من نُسكه.
فقوله { لاَ تَخَافُونَ .. } [الفتح: 27] دلَّ على أنهم آمنون في بداية العمرة وفي نهايتها، وهذا لا يتوفر لهم إلا إذا دخلوا برضا قريش وإذنها.
كلمة { ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ .. } [الفتح: 27] الحق هو: الشيء الثابت الذي لا يتغير، فما دام أن الله أراه الرؤيا فلا بدَّ أنْ تصدُقَ في الواقع، لأن رؤيا الأنبياء حَقٌّ، ونبوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأت أول ما بدأت بالرؤيا الصادقة، وقد مكث رسول الله في مرحلة الرؤيا هذه ستة أشهر.
فإذا ما قارنّا بين هذه المدة وبين مدة 23 سنة هي عمر بعثته صلى الله عليه وسلم وجدناها 1/46، لذلك ورد في الحديث الشريف
"أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" ، وبدأ النبوة بالرؤيا الصالحة لأنها تأتي والإنسان نائم، وليس له خواطر خاصة في شهوة أو خلافة.
وقوله تعالى: { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } [الفتح: 27] أي: جعل من بعد صلح الحديبية ورجوعهم بدون عمرة فتحاً قريباً للإسلام وللمسلمين.
وهذا الفتح من عدة وجوه: أولاً الهدنة مع قريش والتصالح معها، وهذا التصالح أعطى فرصة لنشر الدعوة خارج مكة، حيث تفرَّغ المسلمون لذلك بعد أنْ أمنوا جانب قريش.
وهذا يعني أيضاً الاعتراف بمحمد وبدعوته واحترام العهد معه، فقد أصبح للإسلام كلمة تُسمع بعد أنْ كان مضطهداً.
ثم كان هذا الصلح عزة للمسلمين، كما قال تعالى
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا .. } [الفتح: 26] كلمة الله هي كلمة (لا إله إلا الله)، لذلك قال فيها { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ .. } [الحجرات: 13] فالكرامة هنا، وإياكم أنْ تظنوا أن قريشاً حين تصدكم عن المسجد الحرام أن هذا يعني عزة لها، أبداً لأن العزة لله والكرامة عند الله بالتقوى، لا بالطيش والغرور بالقوة الكاذبة.
والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الصُّلح يُعطينا درساً في الحنكة السياسية، فقد قبل الصلح مع الكفار، وقبل أن يعود هو وأصحابه دون دخول مكة هذا العام وهم على مقربة منها، لأن في ذلك صالح المسلمين والإسلام، حتى إنه في أثناء المعاهدة تنازل عن أشياء ما كان أحد يظن أنه يتنازل عنها.
فلما جاءوا لكتابة المعاهدة أملى رسول الله الكاتب وهو الإمام علي: هذا ما تعاهد عليه محمد رسول الله، فقال سهيل بن عمرو: لا لو كنا نعلم أنك رسول الله ما حاربناك ولا وقفنا منك هذا الموقف، فردَّ عليه رسول الله: بل اكتب محمد بن عبد الله ونزل على رأي سهيل بن عمرو لكن اعترض علي. وقال: بل اكتب رسول الله، فقال له رسول الله: اكتبها وستُسام مثلها فتقبل.
وفعلاً مرَّتْ السنوات، وحدث الخلاف بين علي ومعاوية ولما انتهيا للصلح. قال علي: اكتب، هذا ما تعاقد عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، فاعترضوا على كلمة أمير المؤمنين وقالوا: لو نعلم أنك أمير المؤمنين ما قاتلناك فرضي بها وكتب: علي بن أبي طالب. وكانت هذه المسألة علامة من علامات النبوة.
وأيضاً لما أملى الرسول صلى الله عليه وسلم في أول العقد: بسم الله الرحمن الرحيم فرفضوا كتابتها وقالوا: نحن لا نعرف هذا، بل اكتب: باسمك اللهم فرضي بها أيضاً سيدنا رسول الله.
وهذه كلها تنازلات من رسول الله، جاءت مراعاة لمصلحة الإسلام والمسلمين في إطار { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ .. } [الفتح: 27] وكانت النتيجة { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } [الفتح: 27] وفعلاً بعد هذا الصلح توالتْ الفتوحات بعد أنْ أمِنوا شر قريش لمدة عشر سنوات.