التفاسير

< >
عرض

مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
٢٩
-الفتح

خواطر محمد متولي الشعراوي

{ مُّحَمَّدٌ } اسمه صلى الله عليه وسلم { رَّسُولُ ٱللَّهِ .. } [الفتح: 29] وصفه الجديد، لأننا عرفنا محمداً أولاً قبل أنْ يكون رسول الله، ومحمد من الحمد يعني أن الناس تحمده وقد حمده قومه منذ صِغَره، وقالوا: الصادق الأمين.
فقد كانت سيرته وماضيه بينهم يدلّ على هذه الصفات، وعلى أنه شخص مميَّز بين أقرانه وأنه غير عادي.
وقد أجمعوا على ذلك حتى قبل الرسالة، وكانوا يرون في طفولته أنه لم يُصَبْ بشيء من لوثة الطفولة ولهوها ولعبها، رأوا أنه كان يرعى الغنم وكان مثله من الفتيان الذين يرعون الغنم في البادية ينزلون بالليل إلى مكة يحضرون سهرات اللهو.
أما هو فقد فكر مرة في أنْ ينزل معهم، فلما ذهب معهم إلى هناك أخذه النوم، فلم يستيقظ إلا بعد أنْ انفضَّ السامر. فكأن الله عصمه ونزَّه سمعه وبصره أنْ يسمع أو يرى شيئاً من هذا، أما رفاقه فقد تعجَّبوا لأنهم لم يروْه بينهم، لذلك أصبح مأموناً عندهم، ولما لم يُجرِّبوا عليه كذباً قط أصبح جديراً بأنْ يقولوا عنه: الصادق الأمين.
وفي يوم من الأيام اجتمع الصبيان لحمل حجر ثقيل يلعبون به، فلما ثَقُلَ عليهم شمَّروا ثيابهم حتى لايؤثر الحجر في أكتافهم، وكان معهم رسول الله فأمسك بثوبه، وأراد أن يفعل مثلهم، فسمع صوتاً يقول له: عورتك يا محمد، فكان هو الوحيد الذي لم يكشف عن عورته.
وقد لاحظوا عليه ذلك قبل سنِّ التمييز، فأخذوا عنه فكرة أنه مُهيأ من ناحية أخرى، ثم عرفوا سداد رأيه وحُسْن تفكيره في مسألة وضع الحجر الأسود في مكانه، حينما اختلفتْ قبائل قريش مَنْ ينال شرف وضع الحجر في مكانه حتى كادوا أنْ يتقاتلوا، ثم قالوا: نُحكِّم أول داخل علينا.
فكان محمد الصادق الأمين الذي لا يختلف على أمانته اثنان، فأخذ رداءه ووضع عليه الحجر، وأمر كل قبيلة أنْ تأخذ بطرف منه، حتى إذا ما وصلوا به إلى موضعه من الكعبة حمله ووضعه في مكانه، وهكذا انتهى الخلاف الذي أثار حفيظة القوم.
فقوله تعالى: { مُّحَمَّدٌ .. } [الفتح: 29] أي: هذا الذي تعرفونه وتعرفون صِدْقه وأمانته وكرم أخلاقه، هذا الذي لبث بين ظهرانيكم أربعينَ سنة هو رسول الله الذي اختاره الله للرسالة. إذن: أنتم شهدتم له قبل أنْ أرسله إليكم، وما دام قد شهدتم له بالخُلق الجميل وسداد الرأي فواجبٌ عليكم أنْ تُصدقوه.
والحق سبحانه وتعالى لم يصف محمداً في ذاته إنما صفَّى أصوله، وزكَّاهم بأنْ عصمهم من السجود للأصنام، وهي عبادة كانت شائعة في هذا الوقت، وقد أجمعوا على أن أجداده لم يسجد أحدٌ منهم لصنم.
لذلك جاء في الحديث الشريف:
"ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" أي: أنه صلى الله عليه وسلم جاء من نسل طاهر لم يخالطه شيء من سفاح الجاهلية.
وقصة أبيه عبد الله مع زينب الخثعمية معروفة في الجزيرة العربية كلها خاصة في مكة، حيث رأت فيه جمالاً وجلالاً فعشقته حتى راودته عن نفسه، وعندها قال الأبيات المشهورة:

أمَّا الحَرَامُ فَالمَمَاتُ دُونَهُ والحِلّ لا حل فَأسْتبِينَه
يَحْمِي الكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَه فَكْيفَ بالأمْرِ الذِي تَبْغِينه؟

فلما تزوج عبد الله من آمنة بنت وهب وحملت في رسول الله انتقل إليها هذا النور الذي كان في وجه عبد الله، فلما رأتْه الخثعمية بعد ذلك قالت: وماذا أفعل به وقد ذهب النور الذي كان في وجهه؟
وهذا يعني أن الحق سبحانه وتعالى صنع محمداً على عينه، وحماه من سِفَاح الجاهلية، وحماه في كل مراحله.
وبعد ذلك مات أبوه واستُرضع في بني سعد، ورأت له مرضعته كثيراً من الكرامات والمعجزات، فلما قالت لإخوته في الرضاعة: احموا محمداً من حر الشمس. فقالوا: والله يا أماه ما نجده أبداً في حرِّها، لأنه إذا سار نرى فوقه غمامة تُظلله.
إذن: شهد له في ذاته، وشهد له في آبائه، علم الجميع أنه مُؤيَّد من أعلى.
فقوله تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ .. } [الفتح: 29] يعني أنه اختار الرسول على وفْق رأيكم، فإياكم أنْ تكذِّبوه، ومحمد هنا مبتدأ مُخبر عنه بقوله: { رَّسُولُ ٱللَّهِ .. } [الفتح: 29].
أي: أن محمداً المعروف لكم هو رسول الله، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فكان الواجب ساعة يُرسَل إليكم أنْ تؤمنوا به وأنْ تُصدقوه.
والحق سبحانه وتعالى لما أيَّد محمداً بالمعجزات أيّده بمعجزة عقلية، وفرَّق بين معجزة عقلية ومعجزة كونية، فالمعجزة الكونية تقع مرة احدة، كما رأينا في قصة سيدنا عيسى عليه السلام، وأنه كلَّم الناس في المهد، ولم يَرَ هذه المعجزة سوى القوم الذين حضروها وعاينوا هذا الموقف.
أما بالنسبة لنا فهو خبر نُصدقه ونؤمن به، لأن القرآنَ أخبر به.
أما محمد فرسالته عامة وخاتمة للرسالات إلى قيام الساعة، إذن: فمعجزته يجب أن تتناسب مع عمومية الرسالة، يجب أن تكون معجزة خالدة باقية لا تنتهي بانتهاء الموقف.
لذلك جاء القرآن معجزة باقية ببقاء الرسالة إلى قيام الساعة، فمنذ نزلت الرسالة ونحن نقرأ { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ .. } [الفتح: 29] وستظل تُقرأ إلى قيام الساعة، محمد رسول الله بدليل هذا القرآن المعجز.
لذلك قال تعالى:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9] فتولَّى الحق سبحانه بنفسه حِفْظ القرآن على خلاف الكتب السابقة عليه، حيث وكل الله حفْظها إلى أهلها ومَنْ آمن بها. { { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ .. } [المائدة: 44] ومعنى { ٱسْتُحْفِظُواْ .. } [المائدة: 44] أي: طُلِب منهم حفظها تكليفاً من الله، والتكليف عرضة لأنْ يُطاع ولأنْ يُعصَى، وقد رأيناهم لم يحافظوا بل بدَّلوها وغيَّروها ونسُوا الكثير منها.
أما القرآن فهو كما هو منذ أنزله الله على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الله حفظه بحفظه، ولم يأتمن على ذلك البشر.
ومن مظاهر حفظ الله للقرآن أنْ يسخر له مَنْ يخدمه حتى ممَّنْ لا يؤمنون به، فكثيرٌ ممَّنْ يقومون على طباعة القرآن وزخرفته الآن من غير المسلمين، وقد رأينا الرجل الألماني الذي طبع القرآن كله في صفحة واحدة مع أنه لم يفعل هذا في الإنجيل وهو كتابه.
إذن: نقول أن ماضي رسول الله بين قومه أهَّله لمهمة الرسالة، لذلك الذين استقبلوا خبر بعثته صلى الله عليه وسلم سارعوا إلى تصديقه قبل أنْ يسمعوا من القرآن آية واحدة، لماذا؟
لأنهم أخذوا الدليل على صدقه من ماضيه فيهم، فما جرَّبوا عليه كذباً قط، والذي لا يكذب على الناسَ من باب أوْلَى لا يكذب على الله ربّ الناس.
ومثل هذا الموقف رأيناه أيضاً من الصِّديق أبي بكر في حادثة الإسراء والمعراج، فلما بلغه أن رسول الله يدَّعي أنه أُسْري به قال: إنْ كان قال فقد صدق.
أما المعجزة فقد جاءتْ لمن كذَّب وأنكر رسالته صلى الله عليه وسلم، جاءت لمَنْ لم يؤمن ولمَنْ اتهم القرآن بأنه كذبٌ وافتراء، فجاء ليقول لهم { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ .. } [يونس: 38] أي: مفتراة.
وقوله: { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ .. } [الفتح: 29] أي: آمنوا به وأصلحوا في معيته البشرية والمنهجية، وهؤلاء وصفهم بأنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ .. } [الفتح: 29] إذن: جمعوا بين الشيء ونقيضه، بين الشدة والرحمة.
وهذا دليل على أن المؤمن ليس له طبْع واحد يحكمه، إنما يتغير تبع التكليف الذي يأتيه من ربه عز وجل، فمع الأعداء تجده قوياً شديداً عليهم، يُريهم أن قناة المؤمن لا تلين، أما مع إخوانه المؤمنين فهو رحيم بهم شفيق عليهم.
وفي موضع آخر عبَّر القرآن عن هذا المعنى، فقال:
{ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ .. } [المائدة: 54] فالمنهج الإيماني هو الذي يحكم سلوك المؤمن ويُوجهه، وهذا ما رأيناه بالفعل في تصرّفات كل من الصِّديق أبي بكر والفاروق عمر.
فأبو بكر مع ما عُرِف عنه من اللين والرحمة لما جاءت مسألة الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيناه يخرج عن هذا الطبع الليِّن، ويكون في أشدِّ ما يمكن.
ويقول لعمر: والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتُهم عليه، وينهر عمر ويقول له: أجبَّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام.
والمتأمل في مسألة الردة يجد أنها تحتاج إلى قسوة وحزم، وإلا انتشرتْ خاصة بين ضعاف الإيمان، والناس ما يزالون حديثي عهد بالدين، وهذا ما أخرج أبا بكر من طبْع اللين إلى طبْع الشدة.
وقوله تعالى: { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً .. } [الفتح: 29] فهم مع هذه الشدة على الكفار تراهم ركعاً سجداً، والركوع والسجود مراحل لإظهار العبودية الكاملة لله تعالى، فالركوع تنحني بقامتك لله، والسجود أعظم من الركوع حيث تخرّ إلى الأرض وتضع جبهتك، وهي أشرف موضع فيك على الأرض تواضعاً وتذللاً لله وخضوعاً له سبحانه.
لذلك قلنا: في الركوع والسجود كمال العبودية لله، وهذا فهمناه من قول إبليس الذي حكاه عنه القرآن:
{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ .. } [الأعراف: 17].
فلم يذكر باقي الاتجاهات أعلى وأسفل، لماذا؟ لأن الأعلى يمثل علو الألوهية، حين نرفع أيدينا بالدعاء، والأسفل يمثل ذُلَّ العبودية حينما تسجد الجباه، وتخضع لله تعالى، لذلك لا يأتي الشيطان من هذين.
وقوله تعالى: { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً .. } [الفتح: 29] هذه هي علة كونهم أشداء على الكفار ورحماء بينهم، وكوْنهم يحافظون على الركوع والسجود، أي: يفعلون هذا ابتغاء فضل الله وطمعاً في رضوان الله عنهم.
وهذا قمة الإخلاص في الأعمال، فهدفهم من العمل وجه الله لا ينظرون إلى غيره، لماذا؟ لأنهم يحسبون حساب هذا اليوم الذي سيقفون فيه أمام الله، ولا يجدون غير الله يحاسبهم ويجازيهم.
لذلك قلنا في العلماء والمخترعين الذين خدموا البشرية بأعمالهم الحسنة ومع ذلك لا نصيبَ لهم في الآخرة، لأنهم ما عملوا لله إنما للبشرية وللحضارة.
لذلك قال الله عنهم:
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [النور: 39] فُوجئ بالإله الحق الذي لم يكُنْ في باله هو الذي يحاسبه، وهو الذي يجازيه.
ومن علامات هؤلاء المؤمنين أيضاً { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ .. } [الفتح: 29] سيماهم أي علامتهم المميزة لهم هي الأثر الذي يتركه السجود في جبهة الإنسان والتي نسميها زبيبة الصلاة.
فالخالق سبحانه لم يخلق البشر في الكون على قالب واحد، إنما لكل إنسان قالبه الخاص به، والذي لا يتطابق مع قالب آخر على كثرة الخَلْق، وهذه من طلاقة القدرة في عملية الخَلْق، فالناس مختلفون في الطول والقِصَر والعرض واللون والملامح .. إلخ.
لكن الصفة المميزة لجميع المؤمنين الذين وصفهم الله بهذه الصفات، { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ .. } [الفتح: 29] وهذه العلامة يلازمها نور في الوجه وبشاشة نلاحظها على وجه المؤمن، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وكثيرون منّا يجد لذة في إطالة السجود، ويجد فيه أنْساً بالله فيعتاد ذلك، فتظهر هذه العلامة على جبهته إلى جانب هذا النور والإشراق الذي يبدو على وجهه.
وتستطيع أنْ تلاحظ هذا إذا قارنت بين رجل قضى ليله في الشرب والخلاعة والاستهتار، وآخر قضى ليله في عبادة الله وتسبيحه.
وهذه الوجوه تأتي هكذا
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } [عبس: 38-42].
ونحن نلاحظ هذه الصورة، ونرى بدايتها في الدنيا قبل الآخرة.
وقوله تعالى: { ذَلِكَ .. } [الفتح: 29] أي: الأوصاف التي سبق ذكرها للمؤمنين مع محمد وهي: { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ .. } [الفتح: 29] هذه الصفات هي: { مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ .. } [الفتح: 29] وهكذا وصفتهم التوراة، فكأن التوراة فيها ذكر ومثَلٌ للمؤمنين الذين يؤمنون بمحمد الرسول الخاتم، لأن التوراة مُبشِّرة به.
أما الإنجيل فقد وصفهم بأوصاف أخرى غير هذه { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ .. } [الفتح: 29].
فهؤلاء المؤمنون مثلهم في الإنجيل مثل الزرع الذي أخرج { شَطْأَهُ .. } [الفتح: 29] أي فروعه، والشطأ هو أعلى العود أو السنبلة { فَٱسْتَغْلَظَ .. } [الفتح: 29] يعني: اشتد العود وقوِيَ وامتلأ { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ .. } [الفتح: 29] يعني: بلغ مبلغه حتى إنه { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ .. } [الفتح: 29] لكمال استوائه واستقامته { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ .. } [الفتح: 29].
ولك الآن أنْ تقارن بين هذين المثالين تجد المثل الأول في التوراة اهتم بالنواحي الروحية، وذكر أموراً وأوصافاً كلها قيم ومعنويات، فأتباع محمد أشداء على الكفار رحماءُ بينهم، وهم رُكَّعٌ وسُجَّد يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وهم سيماهم في وجوههم من أثر السجود، كلها قيم ومعنويات ليس فيها شيء من الماديات أبداً.
أما مثلهم في الإنجيل فمثل مادي يخلو تماماً من الروحانيات أو القيم، لماذا؟ قالوا: لأن اليهود كانوا قوماً ماديين مبالغيين فيها؛ بحيث لا يقتنعون إلا بها.
ففي فترة التيه التي كتبها الله عليهم رزقهم المنَّ والسَّلْوى، وهو طعام حُلو شهيٌّ يأتيهم دون تعب، وينزل عليهم دون سَعي منهم، فلم يرضوا به لأنه غيبٌ لا يعلمون مصدره، وطلبوا من الله أن يرزقهم مما تنبت الأرض من بقْلها وقثَّائها وفُومها وعدسها وبصلها. أي: ما يزرعونه بأيديهم ويباشرونه بأنفسهم.
حتى في علاقتهم بالله أرادوا أنْ يكون سبحانه مادة، فقالوا: لموسى عليه السلام
{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً .. } [البقرة: 55] والحق سبحانه وتعالى غيب { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ .. } [الأنعام: 103].
أما رؤيتنا له سبحانه في الآخرة فلأننا نُعَدُّ فيها إعداداً آخر يناسب هذا الشرف، بحيث نتمكن من رؤيته تعالى، أما في الدنيا فلا نقدر على ذلك لأن الله تعالى لم يمنع تجليه على خَلْقه، لكن نحن في الدنيا لا نقدر على تحمل هذا التجلي.
وهذا المعنى واضح في قصة سيدنا موسى عليه السلام، لما قال لربه عز وجل
{ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ .. } [الأعراف: 143] فكان الجواب { قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي .. } [الأعراف: 143] وهذا يعني أن غيرك يمكن أنْ يراني. { { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً .. } [الأعراف: 143] فلما تجلّى ربنا للجبل اندكّ الجبل، فكيف إذا تجلى سبحانه وتعالى على الإنسان، وموسى عليه السلام رأى الجبل وهو يندكّ فخرَّ وصعق من هَوْل ما رأى من أثر التجلِّي على المتجلَّى عليه.
نقول: فلما كانوا بهذه الصورة من المادية جاء لهم بمثَل كله روحانيات وقيم، فكأنه ذكر في التوراة من صفات المؤمنين بمحمد ما ينقض أهل التوراة، يقول لهم: أنتم بالغتم في المادية، وسوف آتي بنبي له أمة تقيم الروحانيات والقيم التي قصَّرتم أنتم فيها.
أما النصارى فكانوا يُغلِّبون الروحانيات، والإنجيل ذاته كله روحانيات وقيم، لذلك لما سُئِلَ سيدنا عيسى عليه السلام عن مسألة ميراث قال: أنا لم أبعث مورثاً.
وهذا التباين بين التوراة والإنجيل جعل اليهود والنصارى يلتقون على كتاب واحد، مزيج من التوراة والإنجيل ليجمعوا بين المادية والروحانية، وسمَّوْه الكتاب المقدس، التقوا عليه رغم ما بينهم من العداوة والخلاف.
ولما كان الإنجيل بهذا الوصف جاء مثَلُ المؤمنين فيه مثلاً مادياً تماماً، وهو الشيء الذي يفتقده الإنجيل، فالإنجيل يخلو تماماً من الحديث عن المعاملات وعن حركة الحياة، إذن: فكلُّ مثل منهما جاء ليجبر نقصاً، فاليهود ينقصهم الروحانيات، والنصارى ينقصهم الماديات في حركة الحياة.
ونقف هنا عند قوله تعالى: { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ .. } [الفتح: 29] هذه إشارة إلى أن تقدمنا في الماديات وبلوغنا فيها درجة الاستواء والاستقامة والاكتفاء الذاتي، هذا أمر يغيظ الكفار، فاحذروا أنْ يسبقوكم في هذا المجال.
إنهم إن سبقوكم فيه أذلوا أعناقكم، وتحكموا في مقدراتكم، واستعلوا عليكم بما يملكون من إمكانيات ليست عندكم.
وهذا للأسف ما حدث، فقد احتجنا إليهم في معظم الصناعات حتى في لقمة العيش، وها هم يفعلون بنا الأفاعيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول لنا: يا مَنْ آمن بمحمد فارتضى بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً عليكم أنْ تأخذوا من كلٍّ بطرف، خذوا من الماديات ما يُعلي شأنكم، وما يُعينكم على حركة الحياة.
وخذوا من الروحانيات ما يعصمكم من الزلل، ويصلح دينكم ودنياكم، لأن مثلكم في التوراة قِيَم، ومثلكم في الإنجيل مادة.
لذلك جاء الإسلام مُؤيّداً بالعلم الكوني لا يتعارض معه، والقرآن مليء بالحديث عن هذه الكونيات، واقرأ إنْ شئتَ وتدبر هذه الآيات:
{ { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 27-28].
فذكر أجناس الوجود كلها الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وكلمة العلماء هنا لا تقتصر على علماء الدين، إنما كل العلماء في كل المجالات دينية أو دنيوية.
فكأن الحق سبحانه أراد لنا ديناً يجمع بين الدنيا والآخرة، بين العبادة وحركة الحياة، فإياكم أنْ تأخذوا الدين وتتركوا الدنيا لأعدائكم يستزلونكم بها.
وسبق أنْ قلنا: مَنْ أراد أنْ تكون كلمته من رأسه فلتكُنْ لقمته من فأسه، فإياكم أنْ يتفوق عليكم أعداؤكم في هذا المجال، لأن عطاء الربوبية واحد للمؤمن وللكافر، فلا تتركوه اعتماداً على عطاء الألوهية.
إنك لا تستطيع أنْ تقيم العبودية لله إلا إذا أخذتَ بعطاء الربوبية، وسعيْتَ إلى تطوير حركة الحياة والاستفادة منها والمشاركة فيها.
وسبق أنْ أشرنا إلى مسألة ستر العورة مثلاً، وهي واجبة، ولا تتم العبادة إلا بها، انظر كم حركة من حركات الحياة نقوم بها لنستر عورتنا باللباس؟
تتبع بذرة القطن من حين أنْ تضعها في الأرض إلى أنْ تصير ثوباً تلبسه، إذن: نقول حركة الحياة هي التي تعين على حركة الدين.
ثم يقول تعالى: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [الفتح: 29] انظر { آمَنُواْ .. } [الفتح: 29] هذا جانب الدين { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ .. } [الفتح: 29] هذا جانب الدنيا وما تحتاجه من حركة الحياة.
فإياك إذن أنْ تهمل جانباً لحساب الآخر، لأن دينك دينٌ جامع للروح وللمادة. والذين آمنوا هم الذين جمعوا هذه الصفات ووعدهم الله هذا الوعد.
والإيمان هو العقيدة الراسخة المستقرة في النفس، والتي لا تقبل المناقشة، فالقلب مطمئن بهذه العقيدة، وأنها تُسعد دنياه وآخرته، والأصل في الإيمان أنْ تؤمن بالله رباً وخالقاً للكون، تؤمن بأسمائه وصفاته.
فإذا آمنتَ بهذه الصفات اطمأن قلبك إلى ما يجري عليك من قضائه وقدره، فهو سبحانه يبتليك بالخير لتشكر، ويبتليك بالشر لتصبر، فأنت مُثَاب في كلتا الحالتين.
والإيمان من مادة (أمن) فهي تدور حول الأمان والاطمئنان. تقول: آمنت بكذا. يعني: اعتقدتُه اعتقاداً جازماً لا يدخله شَكٌّ، وآمنت له يعني: صدَّقته. وأمَّنه يعني: طمأنه على مستقبل حياته، إذن: كلها تدور حول الاستقرار والثبات وعدم التحول إلى النقيض.
وثمرة الإيمان { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ .. } [الفتح: 29] يُراد بها ما تقدَّم من قوله تعالى: { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ .. } [الفتح: 29] وهم في الماديات وفي حركة الحياة مثل الزرع الذي استوى على سُوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار.
والوعد للمؤمنين بماذا؟ { مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [الفتح: 29] قلنا: فيها تخلية ثم تحلية يغفر أولاً. ثم يعطي الأجر. والقاعدة الشرعية أن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة.
لذلك يقول تعالى:
{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ .. } [آل عمران: 185] فالزحزحة عن النار في ذاتها نعمة، لذلك ضُرب الصراط على متن جهنم، فلا بد لمن يمر عليه أنْ يرى جهنم بعينه { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [التكاثر: 7].
وهذا يُشعرك بعظمة الإيمان، وأنه النعمة الكبرى لأنه نجانا من هذه النار وأدخلنا الجنة، والعمل الصالح هو الذي أخذ بيدك وتجاوز بك هذه العقبة.
واقرأ:
{ وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [العصر: 1-3] فمطلق الإنسان في خُسْر لا يستثنى منهم، ولا ينجو إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
والتواصي بالحق يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالصبر يدل على أن هذا الطريق محفوفٌ بالمخاطر، ويحتاج منك إلى صبر على الأذى من الخصوم ومن المعارضين فالنصح ثقيل.
وكلمة
{ وَتَوَاصَوْاْ .. } [العصر: 3] تعني أن الكلَّ يوصي، ففيها استمرارية ومداومة وعدم يأس، لأن المعارض الذي تنصحه قد يصبر هو أيضاً ويتمادى، فعليك أنْ تغالبه في الصبر، وهذا معنى قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ .. } [آل عمران: 200].
ووعد الله هو الوعد الحق الذي لا يتخلف، لماذا؟ لأنه وعد ممَّنْ يملك كلَّ أسباب الوفاء ولا يعوقه عن الوفاء شيء ولا يمنعه مانع، ولأنه سبحانه الحق الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر ولا يتحول، فمَنْ إذن يحول دونه ودون تحقيق وعده؟
فهو سبحانه الإله الواحد الأحد الذي لا شريك له في مُلكه، ولا منازعَ له في سلطانه، وهو القوي، فلا توجد قوة أخرى تمنعه. أما الوعد من البشر فقد لا يتحقق لأنَّ الإنسان لا يملك كلَّ أسباب الوفاء، وهو أهل أغيار وتقلُّب.
لذلك يقول سبحانه:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ .. } [الرعد: 11].
إذن: نقول إن الحق سبحانه ثابت لا يتغير من أجلنا، لكن علينا نحن أنْ نغير من أنفسنا من أجله تعالى.
وكلمة { مَّغْفِرَةً .. } [الفتح: 29] تعني: أن الخالق سبحانه وهو أعلم بخَلْقه علم أننا خطاءون كثيرو النسيان كثيرو الجهل، لكن هذا كله مُتوقع منا، ولا ينبغي أنْ يُيئسنا من رحمة الله لأنه هو الذي خلقنا على هذه الصورة، وهو الذي تكفّل لنا بالمغفرة، وما علينا نحن إلا أنْ نطرق أبوابها
{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [طه: 82].