التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
١٢
-الحجرات

خواطر محمد متولي الشعراوي

الحق سبحانه يأمرنا أنْ نجنتب كثيراً من الظن، والظن هو الخاطر يخطر بالبال. وهو نوعان: ظن حسن، وظن سيء، الظن الحسن لا شيء فيه ولا إثمَ عليه، بل هو من مطلوبات الشرع كما سنرى، والمنهي عنه هنا هو ظن السَّوء الذي يؤدي إلى فساد في العلاقات ويترتب عليه عقوبة.
لذلك علّمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجتنب ظن السَّوْء،
"فلما كان صلى الله عليه وسلم معتكفاً وجاءته السيدة صفية تطلب منه شيئاً فخرج إليها وكانت محتجبة، ورآهما أبو بكر وعمر فانصرفا مخافة أنْ يراهما رسول الله وهو في هذه الحالة لكنه ناداهما وقال: على رسلكما يعني: قِفَا إنها صفية، وعلما ما أراد رسولُ الله، فقالا له: لا يكون هذا معك يا رسول الله، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" .
إذن: فسيدنا رسول الله يُعلِّمنا أنْ نغلق باب ظن السَّوء، ونقطع أسبابه ونربأ بأنفسنا أنْ نضعها في هذا الموضع.
وفي قصة الإفك في سورة النور يُعلِّمنا الحق سبحانه ويحثّنا على أنْ نظن بالمؤمنين خيراً، وأن نبتعد عن ظن السَّوْء فيهم، فيقول سبحانه عن حديثهم في شأن السيدة عائشة:
{ لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } [النور: 12].
والظن الحسن هو أن تحتاط للأمر، ولا تجعل له أثراً سيئاً في نفسك، فمثلاً إنْ جاءك رجل وقال لك: إن في هذا الطريق جماعة يتربَّصون بك ويريدون بك شراً، كان عليك أنْ تأخذ بالأحوط لك وأنْ تصدقه وتِحذر ما حذَّرك منه، لأن الغالب أنه يريد لك السلامة لا يريد لك الإيذاء.
أما إنْ كان الظنُّ يترتب عليه حكم شرعي، فقد وجب عليك أنْ تتحقق من صحته.
وتأمل دقة الأداء القرآني واحتياطه في قوله تعالى: { كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ .. } [الحجرات: 12] يعني: أن أكثر الظن ظن سيء يجب اجتنابه، والقليل ظنٌّ حسن لا مانع منه، لذلك قال بعدها: { إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ .. } الحجرات: 12] لا كله، فاحذر أنْ تقع في الإثم حين تظنّ بالمؤمنين السوء دون بينة.
وقوله سبحانه: { وَلاَ تَجَسَّسُواْ .. } [الحجرات: 12] لا تتبعوا عورات الناس ولا تبحثوا عن خصوصياتهم، وفي الحديث:
"مَنْ تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه في عقر داره" .
ونذكر هنا لطيفة من لطائف أسماء الله الحسنى تلاحظ أن كثيراً من أسمائه تعالى لها مقابل كما في المحيي المميت، المعز المذل القابض الباسط.
لكن الستار ألها مقابل بنقول الفضاح؟ تعالى الله سبحانه عن هذه الصفة لأن ستره مسدولٌ على عباده مهما حدث منهم لا يفضحهم، والستار صيغة مبالغة من ستر ساتر.
لذلك ورد في بعض الأحاديث قوله تعالى: أبغض العاصي ولكني أكره مَنْ يتتبعه، لماذا؟ لأن تتبع العورات والسقطات يُشيع الفاحشة في المجتمع.
فالحق سبحانه يحمي مجتمع الإيمان من هذا، ويكفي أن المستتر بالمعصية ما يزال عنده حياء الإيمان.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"إذا بُليتم - أي بشيء من المعاصي - فاستتروا" .
وهذا كمن لا يقدر على الصوم مثلاً وعنده عذر ويُباح له الفطر، لكن مع ذلك لا يجوز له أنْ يجاهر بفطره أمام الناس، حتى لا يكون قدوة سيئة للشباب الذين لا يدركون هذه الأعذار.
فحين يرونه يفطر تتربَّى عندهم خميرة ذهنية أنه يجوز لهم الفطر في رمضان، إذن: عليه أنْ يستر فطره حتى لا تَحدث هذه الأسوة.
ولخطورة التجسس، قال الفقهاء: لو أن رجلاً يعيش في عشة من البوص والعيدان، وجاء آخر فنظر إليه من خلال الثقوب، فجاء صاحب العشة بعود ففقأ عينه لا يكون لعينه مقابل ولا تعويض، لأنه اقتحم على الأول منزله، ونظر إليه دون إذنه.
ومثل هذا في سنة رسول الله حيث بلغه أن رجلاً ينظر إليه من ثقب الباب.
ويُروى أن سيدنا عمر كان يتفقَّد أحوال رعيته، ويقوم بالعسِّ ليلاً، وقد بلغه أن رجلاً يشرب الخمر مع أصحابه في بيته، فتسوَّر عليه داره فوجده مع رجل من أصحابه جالسين، وليس في المجلس خمر ولا شيء من هذا.
فلما رأه الرجل قال: لقد ظننت بي كذا وكذا، لكن فاتك من أمور الدين ما هو أهم من ذلك. أولاً: دخلت البيت من السور، والله يقول:
{ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا .. } [البقرة: 189] ثانياً: دخلت عليَّ بيتي بدون استئذان، فانصرف عمر ولم يقل شيئاً.
وفرْق بين التجسس (بالجيم) والتحسس (بالحاء) التحسس تتبُّع وبحث عن الغير، لكن بدون قصد العورات، ومن ذلك قوله تعالى:
{ يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ .. } [يوسف: 87] أي: ابحثوا عنه حتى تصلوا إليه، كما يفعل رجال المباحث مثلاً.
وقوله: { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً .. } [الحجرات: 12] هنا نَهْي عن الغيبة عموماً، لأن القرآن لم يحدد مَنْ يغتاب ومَنْ يغتاب فيه.
"ولما سُئلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة قال: ذِكْرك أخاك بما يكره وهو غائب. فقال السائل: فإن كان في أخي ما أقول؟ قال: إنْ كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإنْ لم يكُنْ فيه ما تقول فقد بهته، أي: افتريتَ عليه وكذبتَ" .
ثم يعطينا القرآن صورة حسِّية للغيبة، فيقول: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ .. } [الحجرات: 12] تأمل كم في هذه الصورة من منفرات تبين فظاعة هذا العمل، فالذي يغتاب أخاه في غيبته كالذي يأكل لحمه وهو ميت. أي: غائب عن الحياة ولا يقدر أنْ يدافع عن نفسه.
إذن: شبّهه بصورة شنيعة تنفر منها النفس السوية.
وقالوا: إن سبب نزول هذه الآية أنها نزلتْ فى الوليد بن عقبة ابن أبي معيط حينما بعثه رسول الله لجمع أموال الزكاة من بني المصطلق، وكان عليه لهم دية في الجاهلية، فلما رأوْه خرجوا لمقابلته، فخاف منهم الثأر وعاد إلى رسول الله، وقال: إنهم امتنعوا عن دفع الزكاة.
ورُوي أن أسامة بن زيد كان القائم على مؤنة الطعام في بيت رسول الله، فأراد رجلان أنْ يذهبا لكي يَطْعما في بيت رسول الله، فبعثوا سلمان الفارسي ليسأل أسامة الطعام، فلما سأله قال: ليس عندنا طعام، فعاد إليهما سلمان وقال: يقول أسامة: ليس عندنا طعام، قالا: بل عنده لكنه بخل به، ثم قالا لسلمان: أنت وجهك وجه شؤم، ولو ذهبت إلى بئر سميحاً يعني: فواراً - لغاب ماؤه.
وهكذا اغتابوا كلاً من أسامة وسلمان، فلما رآهما رسول الله قال: إني لأشمُّ من أفواهكم ريح لحم نتن، قالوا: يا رسول الله والله ما أكلنا لحماً، قال: لقد اغتبتما أسامة وسلمان، اذهبا فارضوهما لأنك إذا لم تُرض المغتاب فستكون عند الله أقبح من الزاني.
لذلك لما اغتاب رجل ابن سيرين فجاءه وقال له: يا إمام أحل نفسي منك، فقال: لم؟ قال: لأنِّي اغتبتك، فقال: أنا لا أُحِل ما حرم الله.
والحسن البصري علم أن رجلاً اغتابه، فأرسل إليه خادمه بطبق من الرُّطَب، وقال له: قل له هذا هدية لك من سيدي، لأنه علم أنك أهديتَ إليه حسناتك بالأمس.
هذا يدل على أنك تدفع حَقَّ مَن اغتبته من حسناتك، فَإنْ لم تكن لك حسنات أُخِذَ من سيئاته فطُرِح عليك، وقد دلّ على ذلك الحديث النبوي الشريف.
وقوله تعالى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [الحجرات: 12] اتقوا الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، وتجنّبوا أسباب عقابه { إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [الحجرات: 12] أي: كثير التوبة على مَنْ تاب، كثير الرحمة لمن أناب.
وهذا الختام يعطي العاصي الأمل في رحمة الله، ولا ييئس المغتابين من رحمته تعالى، فمَنْ زلَّ لسانه بالغيبة فليبادر بالتوبة، وإذا علم أن ربه تواب رحيم عاد من قريب ولا يستمريء هذه الفعلة ولا يتمادى فيها.
وسبق أنْ أوضحنا أن من أعظم نعم الله علينا أنْ شرع لنا التوبة، وفتح لنا بابَ القبول، وإلا تمادى العاصون وفسدَت الحياة.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ ... }.