التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
١٣
-الحجرات

خواطر محمد متولي الشعراوي

تلاحظ أن النداءات السابقة كانت بيأيها الذين آمنوا، لأنها توجيهات وتشريعات خاصة بالذين آمنوا، لأن الله تعالى لا يُكلِّف إلا مَنْ آمن به.
أما النداء هنا فنداء عام للناس جميعاً يلفت أنظارنا إلى آية الخَلْق، وإلى عظمة الخالق سبحانه، وهذا الآية تشمل الجميع، فالخالق سبحانه خلق المؤمن والكافر، والذكر والأنثى، هما أصل هذا الخَلْق، فالذكر وحده لا يتناسل، وكذلك الأثنى وحدها.
أما قوله تعالى في سورة السجدة:
{ ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [السجدة: 7-8] فهذا خاص بالخلق الأول، وهو آدم عليه السلام، حيث خلقه الله وصوَّره بيديه، وكل شيء في الكون مقدور بقول: كُنْ فيكون.
لذلك قال تعالى لإبليس:
{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ .. } [ص: 75] يعني: كيف لا تسجد لشيء أنا خلقته بيدي، إذن: أنت لا تسجد لآدم إنما تسجد طاعة لمن أمرك بالسجود.
وبعد أن خلق آدم من طين جعل ذريته من بعده
{ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [السجدة: 8] وهذا يقتضي الزوجية بين الذكر والأنثى.
وفي سورة النساء قال سبحانه:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ .. } [النساء: 1] أي آدم عليه السلام { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا .. } [النساء: 1] يعني: حواء. إذن: حينما يقول سبحانه: { مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ .. } [الحجرات: 13] لا يعني بداية الخلق، إنما النسل الذي جاء بعد الخلق الأول.
لذلك قال في آخر آية النساء:
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً .. } [النساء: 1] وهؤلاء الرجال والنساء تفرقوا في أنحاء الأرض وصاروا { شُعُوباً وَقَبَآئِلَ .. } [الحجرات: 13] فالعرب شعب، والروم شعب، والفرس شعب، ثم انقسمتْ الشعوب إلى قبائل، والقبائل إلى بطون، والبطون إلى أفخاذ وهكذا.
وفي داخل الأسرة الواحدة تختلف الأسماء، لأننا لا نترك الأشخاص بدون أسماء ليتم التعارف، فهذا محمد وهذا أحمد وهذه فاطمة .. والحكمة من ذلك هي { لِتَعَارَفُوۤاْ .. } [الحجرات: 13] على مستوى الأفراد وعلى مستوى الشعوب.
والتعارف أمر ضروري بين البشر، لأن مصالحهم في أنْ يتعارفوا، وسوف تضطرهم ظروف الحياة لهذا التعارف، حيث سيحتاج بعضهم إلى بعض، لأنه كما قلنا: الحق سبحانه وزَّع أسباب فضله على خَلْقه، فما توفر لك قد لا يتوفر لغيرك.
لذلك رأينا مثلاً أوربا التي بلغت من الحضارة والتقدم مبلغاً تحتاج إلى سكان الصحراء رعاة الغنم والإبل حيث البترول وثروات الجبال من المعادن والأحجار الكريمة.
وهذا الاختلاف في الفضائل يؤدي إلى أنْ يتعاون الخَلْق ويتساندوا، بحيث يكمل بعضهم نقص بعض. إذن: اختلاف يؤدي إلى التكامل لا إلى التعاند.
وهذا التكامل شاهدناه في آية خَلْق الرجل والمرأة، فالرجل والمرأة ليسا ضدين، بل هما عنصران متكاملان، لأن لكل منهما مهمة لا يؤديها الآخر.
والحق سبحانه أوضح لنا هذه المسألة بقوله تعالى:
{ وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } [الليل: 1-2] فهل يقول عاقل أن الليل ضد النهار؟
ومثل الليل والنهار الذكر والأنثى، لذلك أقسم بعدها بخلقهما، فقال:
{ وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [الليل: 3] فالرجل لتحمُّل مشاقّ الحياة، للكدح وللعمل، والمرأة حنان وعاطفة، وكل مُيسَّر لما خُلِق له.
لذلك نعجب ممن ينادي بالمساواة بين الرجل والمرأة، كيف ولكلٍّ منهما مهمته التي خُلق لها. والبعض يظلم النساء ويقول: ناقصات عقل ودين، لأن العقل مهمته الترتيب والاختيار بين البدائل، وهذه ليست مهمة المرأة بل مهمة الرجل الذي يدير دفة الأسرة في رحلة الحياة.
أما المرأة فمهمتها عاطفية، تحنو على الصغير والكبير، وتفتح صدرها لتستوعب، وتريح المتعب والمريض في أسرتها، ومع ذلك نراها إذا ترملت قامتْ بالمهمتين وحلَّتْ محلّ الزوج، وربما كانت أكثر نجاحاً في تربية الأولاد وصيانتهم.
الحق سبحانه وتعالى خلق آدم من طين، وسوَّاه ونفخ فيه من روحه، لكن لم يخلق حواء بنفس الطريقة، إنما أخذ من ضلع آدم جزءاً وخلق منه حواء، لماذا إذن لم يخلقها كخَلْق آدم؟ قالوا: خلقها من الرجل لتكون له القوامة عليها.
كذلك في مسألة الحمل تأخذ منه البذرة، ثم تكمل هي عملية النسل، قال تعالى:
{ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا .. } [النساء: 1].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
"خُلقت المراة من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه" وكما شرف آدم بأن الله خلقه وسوّاه بيده، كذلك شَرُفَتْ حواء أنها خُلقت من شيء خلقه الله بيده.
والعالم الآن مشغول بعملية الاستنساخ، وهو يعني أنْ نأخذ من الأصل نسخة مطابقة له، كما نقول نسخ الكتاب. يعني: أنْ نأتي منه بصورة أخرى مثله، وهذه العملية نراها في الجماد مثلاً، نرى الزلط منه الكبير والصغير والمتوسط، فهل رأينا (زلطة) مثلاً تكبر عن حجمها أبداً، لماذا؟
قالوا: لأن له مطامر تحت الأرض، تتم فيها عملية التكاثر أو الاستنساخ هذه، فإذا خرج إلى الهواء جَمُد على ما هو عليه.
كذلك نجده في النبات، فهل رأيتم مثلاً تقاوي القصب أو التين البرشومي؟ أبداً ليس له تقاوي، إنما نأخذ عقلة من عود القصب ونزرعها فتخرج عود القصب، ونأخذ لوحاً من ألواح التين ونزرعه فيعطينا شجرة تين، أليس هذا استنساخاً؟
كذلك بالإمكان أنْ نجده في الحيوان، وبالفعل تحدَّثوا عن استنساخ تم بالفعل في الحيوان، كما حدث في النعجة دوللي. وهي محاولة على أية حال.
أما في الإنسان فهي عملية لا يقدر أحدٌ عليها، لأن الإنسانَ مختلف عن باقي أجناس الكون، لأنه خليفة الله في الأرض، وهو المخلوق المكرَّم وباقي الأجناس في خدمته، فلو تصوَّرنا الاستنساخ في الجماد والنبات والحيوان فلا نتصوَّره أبداً في الإنسان، لأن التكاثر فيه له شروط وضوابط لا مجرد استخراج نسخ مكررة منه.
لذلك لا يتم التكاثر في الإنسان إلا من خلال اللقاء بين الزوجين الذكر والأنثى، وداخل أسرة تحتضن الطفل وتحبه وتربيه وتعتني به، لا يليق بالإنسان أنْ يخرج من مفرخة مثل مفرخة الكتاكيت مثلاً.
لذلك نرى أن طفولة الإنسان هي أطول طفولة في المخلوقات كلها، وعندنا من الأطفال مَنْ تبلغ طفولته حتى سنِّ 14 سنة، أما الطيور والحيوانات فتعتني بصغارها حتى تستطيع الحركة والأكل ثم تتركها وكأنها لا تعرفها، وربما ذُبح الحيوان أمام أمه وهي لا تدرى به.
فكيف إذن نتصور الاستنساخ في الإنسان وهو الخليفة المكرّم، إن الأديان كلها ترفض الزنا وتأبى أنْ يأتي الولد بطريق غير شرعي، تأبى أنْ يُرمى المولود في الشارع، أو حتى يُربى في الملاجىء، فكيف الحال إذا تَمَّ استنساخه؟
من هنا نقول: إن عملية الاستنساخ لا تكون أبداً في الإنسان، ولا يقدر عليها إلا الله خالق الإنسان، ويريد له الصلاح، يريد له أنْ يأتي في أحضان أب يرعاه وأم تحنو عليه يأخذ منهما الفضائل، ويتعلم منهما القيم.
ثم إن نجاحهم في استنساخ الحيوان لا يعني أبداً الطعن في القدرة الإلهية، بل هو دليل جديد من أدلة الإيمان بالقدرة، فالذي استنسخ النعجة لم يأت بها من العدم، إنما جاء بها من نعجة أخرى هي خَلْق من خَلْق الله، والعقل الذي فكّر خَلْق من خَلْق الله.
ثم يضع الحق سبحانه القاعدة التي بها تتفاضل هذه الشعوب وهذه القبائل، فيقول: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ .. } [الحجرات: 13] أي: أن أشخاص الشعوب تتميز بالتقوى.
لذلك ورد في الحديث القدسي:
"يقول الرب: جعلتُ لكم نسباً وجعلتم لأنفسكم نسباً، قلت: إن أكرمكم عند الله أتقاكم فأبيتُم، وقلتم: فلان بن فلان. فاليوم - يعني: يوم القيامة - أرفع نسبي وأضع أنسابكم" .
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13] عليم بخَلْقه، يعطي كلاً منهم ما يناسب مهمته ودوره في حركة الحياة، كما قال سبحانه: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [الملك: 14].
فالله أعلم بخلْقه وأعلم بقدراتهم ومقدارهم، ويسَّر كلاً منهم للعمل الذي يناسبه، لذلك نراهم طبقات فيهم أستاذ الجامعة، وفيهم الحداد والسباك والنجار وماسح الأحذية فيهم الصانع والزارع، وإلا كيف تستقيم حركة الحياة لو أن الناس جميعاً ذكاترة جامعة؟