التفاسير

< >
عرض

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨
-الحجرات

خواطر محمد متولي الشعراوي

سبق أنْ أوضحنا أن السماوات والأرض ظرف، وفي هذا الظرف عجائب وبدائع من خَلْق الله أعظم من الظرف، لأن القاعدة أن المظروف أعلى وأعظم من المظروف فيه.
لذلك الحق سبحانه يقول:
{ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [آل عمران: 189] وفي موضع آخر: { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ .. } [النجم: 31] فالسماوات والأرض رغم ما فيهما من عجائب الخلْق وإبداع وهندسة كونية إلا أنهما يحويان ما هو أعجب.
هنا يُحدِّثنا الحق سبحانه عما في السماوات والأرض من غيب، والغيب كل ما غاب عن إدراكك، والشيء قد يغيب عن إدراكك اليوم ويظهر لك غداً، فمثلاً الكهرباء قبل اكتشافها كانت غيباً لا ندري عنه شيئاً، والآن أصبحتْ مشهداً نحسُّه جميعاً ونتعامل معه.
إنك لو نظرتَ إلى الموجبات التي تحمل الصوت والصورة في الهواء لوجدتَ أمراً عجيباً حقاً، لأنك لو جئتَ مثلاً بمائة راديو ومائة تليفزيون، ووضعتها في مكان واحد، ووجَّهت كلاً منها إلى جهة لوجدتَ إرسالات مختلفة بالصوت والصورة.
فكيف تداخلتْ هذه الموجات في هواء واحد، ووصلتْ إلينا بهذه الدقة وهذا الوضوح، وهي من أقصى بلاد الدنيا؟
هذه كلها أسرار من غيب السماوات والأرض تدعونا إلى الإيمان بقوله تعالى:
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ .. } [فصلت: 53].
ورغم عظمة الخَلْق في السماوات والأرض، فغيب السماوات والأرض أعظم من الجميع، وسيظل هذا الغيب مدداً لا ينفد، وعطاء لا ينتهي، يُطالعنا من حين لآخر بشيء جديد من غيب الله ليظلّ القرآنُ معجزاً إلى قيام الساعة.
ومن حكمة الحق سبحانه وتعالى أنْ وزَّع عطاءات القرآن على عصور الزمان كلها حتى لا يستقبل عصرٌ القرآنَ وهو بلا عطاء.
ثم إن هذا العطاء يأتي على قدر العقول، وعلى قدر البحث والتأمل في ملكوت الله، وبذلك نفهم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم عن القرآن:
"لا تنقضي عجائبه ولا يَخْلَق عن كثرة الردِّ" .
فأنت تقرأ مثلاً أعظم القصائد الشعرية، ولا بدَّ أنْ تسأم منها بعد مرة أو حتى بعد عدة مرات، لكن تقرأ القرآن فلا تمله، بل تزداد له حباً كلما أمعنتَ في القراءة، لأنه كلام الله وله سِرٌّ مع كل تَالٍ له، وله عطاء لكل مُتأمل فيه، فعطاءات القرآن متعددة يأخذ منه كل تَالٍ له على قدره.
وختام السورة بهذه الآية { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ .. } [الحجرات: 18] يدل على أن مُلْك الله واسع وعجائبه لا تنتهي، وليس لها حصر ولا عدَ، ومهما وصلت البشرية من التقدم فسوف يبقى عند القرآن الجديد، وفي آيات الله ما يبهر العقول.
كنا في الماضي نتحدث عن عصر الفحم، ثم عصر البخار، ثم عصر الكهرباء، والآن يتحدثون عن عصر الطاقة النووية والطاقة الذرية، فأين كانت هذه الطاقات؟
كانت غيباً في علم الله وكشف عنها لعباده حينما تقدَّمتْ العقول وارتقتْ الأفكار، وكلها اكتشافات لم يأتِ أحدٌ بشيء من عنده، كلها من عند الله وفَيْض من عطائه مطمور إلى حين.