التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
٦
-الحجرات

خواطر محمد متولي الشعراوي

أيضاً نداء خاص بالذين آمنوا، وهو النداء الثالث بعد { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ .. } [الحجرات: 1] وبعد { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ .. } [الحجرات: 2] وهنا { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ .. } [الحجرات: 6].
ونلاحظ أن النسق القرآني لم يجمع بين هذه الأمور الثلاثة في نداء واحد، ولم يستخدم أدوات العطف إنما خصَّ كل أمر منها بنداء خاص لمزيد التأكيد والاهتمام.
ففي وصية سيدنا لقمان لابنه قال:
{ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13].
وقال:
{ يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ * وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } [لقمان: 17-19].
إذن: خصّ مسألة العقيدة بنداء خاص لأهميتها، وجمع عمل الجوارح في نداء واحد لأنها على مستوى واحد من الأهمية في الدين.
إذن: نفهم من تكرار النداء بيأيها الذين آمنوا أنه يعطي أهمية خاصة لكل نداء. ومعنى { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ .. } [الحجرات: 6] الفاسق وصْف مأخوذ من قولنا فسقت الرطبة. يعني: خرجت عن قشرتها، وخروج الرطبة عن قشرتها يُعرِّضها للحشرات وللآفات الضارة.
كذلك المؤمن يُغلفه الإيمان ويحميه أنْ تصيبه آفات النفوس، فإذا فسق يعني: خرج عن حدود الإيمان وشذَّ عنه أصابته الأمراض المهلكة، لذلك قالوا عن الفاسق هو مرتكب كبيرة أو مجهول الحال.
فإذا جاءك النبأ أي الخبر من مثل هذا من فاسق فلا تُسلم له بما قال، إنما { فَتَبَيَّنُوۤاْ .. } [الحجرات: 6] يعني: تثبَّتوا من صحة هذا الخبر ومن صدَّقه.
قف حتى تتبين وجه الحقيقة فيما سمعتَ حتى يكون حكمك على الأمور واقعياً، ولا تأخذك العجلة والحمية فتقع في محظور { فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6].
الحق سبحانه يأمرنا بالتثبت هنا لأن الإنسان ابن أغيار كثير التقلب، فربما اتصف بالصدق، لكن كذب هذه المرة أو اتصف بالكذب، لكن صدق هذه المرة، فالتثبت احتياط واجب، حتى يأتي الحكم والتصرف بعد ذلك موضوعياً ولا نقع في دائرة الظلم والتعدي على الآخرين.
تبيَّن من خبر الفاسق لعله يكون من الأشياء التي عصى الله فيها، لأن العصيان عنده سهلٌ، فلو صدَّقته ربما تصيب قوماً لا ذنبَ لهم.
{ بِجَهَالَةٍ .. } [الحجرات: 1] وأنت تجهل حقيقة الأمر، وعندها يصبح المصاب صاحبَ حق وأنت مُعتد فتندم على تعدِّيك وتجاوزك للصواب، تندم لأنك جعلتَ مَنْ أسأته صاحبَ حَقٍّ عليك.
وفرْق بين مَنْ يفعل الذنب بجهالة ومَنْ يفعله متعمداً، وبحسب موقف النفس البشرية من المعصية يكون قبول التوبة، وأذكر ونحن في فرنسا أن واحداً من الزملاء رُشِّح لأنْ يكون مبعوثاً إلى فرنسا، هذا ذاهب إلى هناك لقصد العلم فقط وليس في باله أي أغراض أخرى، وهناك سكن على طريقة الغرباء في أحد البيوت مع إحدى الأسر.
وفي ليلة دخلت عليه بنت هؤلاء الذين يسكن معهم، ربما قد يكون ارتكب معصية معها في هذا الموقف لكنه وقع فيه عن جهالة ودون أن يخطط له.
على خلاف شخص آخر حينما يذهب إلى هذه البلاد يذهب وفي باله هذه المسائل، وربما اتصل بمَنْ يعطيه عناوين أهل المعصية.
لذلك يُحدد الحق سبحانه شروط التوبة المقبولة، فيقول:
{ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [النساء: 17-18].
والندم على المعصية أول مراحل التوبة، لكن الأمر بالتثبُّت من خبر الفاسق، أهو وعظ ابتداءً أم له سَببٌ نزل القرآنُ من أجله؟ قالوا: بل له سببٌ وهو حادثة الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما ولاَّه رسولُ الله جبايةَ أموال الزكاة من بني المصطلق.
فلما ذهب إليهم خرجوا جميعاً لمقابلته والاحتفاء به حين علموا أنه رسول رسول الله، لكنه خاف من جمعهم على هذه الصورة، وخشي أنْ ينالوه بشرٍّ خاصة وقد كان له دية قديمة عندهم من أيام الجاهلية.
ففرَّ عائداً إلى رسول الله وقال: يا رسول الله منعوني الزكاة، فرسولُ الله تثبَّت من الأمر وسألهم فقالوا: بل خرجنا فرحاً به يا رسول الله، ولو صدَّق رسولُ الله هذا الخبر لاعتبرهم مرتدين، وربما كان حدث ما لا تُحمد عقباه.
وروُي أن سيدنا رسول الله بلغه أن السيدة مارية القبطية أم إبراهيم لها ابنُ عم يزورها ويدخل عندها، فأغضبه ذلك وقال لعلي: خُذْ هذا السيف واذهب إليه فإنْ وجدته فاقتله. فقال: يا رسول الله أنا في أمرك أأقتله. أم يرى الشاهد ما لا يرى الغائب؟ انظر هنا إلى احتياط علي رضي الله عنه.
فلما ذهب وجده عند مارية فهمَّ بسيفه ليقتله، لكن الرجل أسرع إلى نخلة فصعد عليها بحيث لا يناله سيفُ علي، ثم ألقى بنفسه على الأرض وفتح بين ساقيه حتى بانت لعلي أماكن عورته فرآه علي أمسحاً، يعني: ليس له ما للرجال فكفَّ عنه.
وذهب إلى رسول الله وأخبره الخبر فقال: صدقتَ يا علي، يرى الشاهد ما لا يراه الغائب. ونفهم من هذه القصة أن الذي أخبر بها رسولَ الله فاسقٌ أراد الوقيعة والتشهير بأم إبراهيم.