التفاسير

< >
عرض

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٤٥
-المائدة

خواطر محمد متولي الشعراوي

لقد كتب الحق على اليهود في التوراة التي وصفها من قبل بأنها هدى ونور، كتب وأوجب عليهم أن النفس بالنفس، وعلينا أن نأخذ كل أمر وما يناسبه من الحدث. أي أن النفس تُقتل بالنفس. ولكن عندما يقول الحق: { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ }، فهل يعني ذلك أن تقتل العين؟ لا. ولكن العين تقلع مقابل عين. وكذلك { وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ }. أي الأنف المجدوعة، مقابل جدع أنف أخرى. وكذلك قوله الحق: { وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ } أي إصابة اذن بالصمم مقابل إصابة أذن بالصمم. إذن فلكل ما يقابله. فهناك النفس تقتل بالنفس وهناك العين تفقأ بالعين، وكذلك الأمر في جدع الأنف، وصلم الأذن.
إن تعبيرات اللغة واسعة تعطي لكل وصف ما يناسبه. فالإنسان مثلاً قد يكون جائعاً. ولكن إلى ماذا؟ إن كان جائعاً لطعام فهو جوعان. وإن أراد خصوصية أكل ويشتهيه كاللحم فلا يقال له: جوعان، ولكن يقال "قَرِم". وإن كان يشتهي اللبن يقال له: "عَيْمان"، وإن كان في حاجة للماء يقال له: "عطشان". وإن كان جائعاً للجنس فهو "شَبِق".
وذلك يكشف لنا أن الإنسانية تحتاج إلى أمور متعددة، وكل أمر له اسم. وكل شيء له تعبير. ومثال آخر: يقال: فلان جلس، أي قعد. وهذا في المعنى العام. ولكن الجلوس يكون عن اضطْجاعٍ. أما قعد، فهي عن قيام، أي كان قائماً وقعد. ولذلك قال الحق: { قِيَاماً وَقُعُوداً }.
ومثال آخر: يقال: "نظر" و"رمق" و"لمح"؛ وكل كلمة لها موقفها؛ فالنظر يكون بجميع عينيه. و"رَمِق" أي لحظ لحظا خفيفاً. و"لَمَح" أي اختلس النظر إليه. وكذلك قوله الحق معناه: أننا كتبنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفس، والعين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوعة بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مخلوعة بالسن. وبعد ذلك يقول الحق عن الجروح: { وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ } لأن الجرح قد يكون في أي مكان. والقصاص يكون بمثله ومساوياً للشيء، وهو مأخوذ من قص الأثر؛ أي السير تبعاً لما سارت عليه القدم السابقة دون انحراف. ولما كان القصاص هو أمر مطلوب فيه المماثلة فذلك أمر صعب، صحيح أن الحق قال:
{ { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194]
لكن القصاص أمر صعب، فالصفعة من يد جائع متهافتة بعكس الصفعة التي تأتي من يدٍ صاحبُها في منتهى النشاط والقوة. فكيف يكون القصاص مناسباً لقوة الذي فعل الفعل؟
إذن لا يصح أن يدخل الإنسان في متاهة. ويمكنه أن يتصدق بالقصاص فلا يأخذه. ونحن نعلم حكاية "تاجر البندقية" ذلك المرابي اليهودي الذي أقرض نقوداً مقابل رطل من لحم صاحب القرض، وكتب الاثنان التعاقد وجاءا بالشهود ولم يستطع الرجل أن يُسدّد المال في الميعاد ولكن القاضي أنار الله بصيرته. فقال: خذ الرطل من لحم الرجل ولكن إن أنقصت أوقية فسنأخذها منك أو إن زدت أوقية فسنأخذها منك. فقال المرابي: لا أريد.
وقد قنن الحق للجريمة، ولم يغلق سبحانه باب الطموحات الإيمانية، فقال: { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ }. ومعنى "تصدق" أنه دفع وأعطى شيئا غير مستحق، ولا واجب عليه أي تبرع به ابتغاء وجه الله. إن الذي يتعب البشر في تقنيناتهم أنهم يطيلون إجراءات التقاضي، فساعة تقع جريمة يستمر التحقيق فيها بواسطة القضاء لأكثر من عام فتنبهت بشاعة الجريمة في النفس البشرية. ومن الواجب كذلك أن يكون الأمر لولي القصاص؛ لأنك إن مكنته أرضيت نفسه بأول شفاء. وساعة يُعطى الإنسان ذلك الحكم فقد يزهد فيه؛ لأن الأمر حين يكون في يده ويقدر على القصاص فمن المحتمل أن يعفو.
وسيظل المتصدَّق عليه طيلة حياته يدين بحياته أو بجارحة من جوارحه لصاحب القصاص. وبدلاً من إيعازات الثأرات تنشأ المودة. وحين يشرع المشرع الأعلى يوضح لنا: لا تحكم بأنك دائماً معتدى عليك، بل تصور مرة أنك معتد، ألا تحب في مثل هذه الحالة أن يتصدق عليك صاحب القصاص؟ فإذا أرادت الحكومات لأن تنهي الثأرات فلهم في التشريع الأعلى الحكم الواضح.
وفي صعيد مصر، ساعة يُقتل إنسان نجد الذي عليه الثأر يأخذ كفنه ويذهب إلى العائلة الطالبة للثأر، ولحظة يدخل عليهم حاملاً كفنه بيديه، تشفي النفوس من طلب الثأر. ويحيا، وصاحب الثأر متفضل عليه بالعيش { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } تكون الصدقة هنا من ولي القصاص. والفعل "تصدق" يحتاج إلى اثنين هما: "متصدِّق" و"متصدَّق عليه". وسبحانه الحق يكفر عن المتصدق من الذنوب بقدر ما تسامح فيه لأخيه، وهنا يحنن الله الخلق بعضهم على بعض؛ لذلك تأتي المسألة هنا من ناحية صاحب القصاص لترغبه في التصدق.
وينهي الحق الآية بقوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } وعرفنا من قبل ضرورة الحكم بما أنزل الله. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم ... }.